كثيرا ما يجد المفسر نفسه- فيما يتعلق بمعانى الآيات، أو بملابسات نزولها- فى مواجهة روايات بأسباب متعددة لنزول الآية الواحدة، وسبيله عندئذ أن ينظر فى الصيغ التى وردت بها تلك الروايات والقرائن التى تصاحبها، وهذه الصيغ أو تلك القرائن هى التى تحدد إمكان الجمع أو الترجيح بين هذه الروايات المتعددة، وقد تتبع العلماء أوجه هذا التعدد فوجدوها تأتى على النحو التالى:
(أ) أن تكون الصيغ الواردة ليست نصا فى سبب النزول: بأن يقول بعضهم: (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا من مضمونها، ويقول الآخر: (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا آخر مما يحتمله مضمون الآية.
فهاتان الصيغتان تقبلان معا على أنهما للتفسير والبيان، وليس لبيان سبب النزول، وذلك ما لم تقم قرينة على صيغة منهما تعينها سببا لنزول الآية، فلو قامت هذه القرينة تعينت تلك الصيغة سببا للنزول دون غيرها.
مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ سورة البقرة/ 274.
فقد ورد فيها بيان لكل من ابن عباس رضى الله عنهما، وقتادة بن دعامة السدوسى (ت 117 هـ) رحمه الله تعالى، فلو تأملنا فيها قول ابن عباس رضى الله عنهما: إنها فى الذين يعلفون الخيل فى سبيل الله تعالى.
وكذلك قول قتادة: إنها فيمن أنفقوا فى سبيل الله الذى افترض عليهم فى غير سرف ولا إملاق ولا تبذير (?)؛ لكان كل من القولين صحيحا، لأن الآية تتضمن هذا وذاك، ولا منافاة بينهما.
ومن هذا القبيل: ما يمكن أن يقال عند تدبر قول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ آل عمران/ 169، 170.