وجوه (?) قد عنى العلماء بإفاضة القول فيها.

مع أن هذا القول الصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل فى معناه.

على أن كثيرا من الشعراء قد أوجزوا فأخلوا، وسر بلاغة الإيجاز وضوح المعنى ..

من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود:

أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحب من الأكثر الرائث

(?) لأنه أراد: عاجل ما أشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر البطىء، فترك «مع القلة» وبه تمام المعنى.

ومنه قول عروة بن الورد:

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذر

كأنه أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم فى السلم وقتلهم فى الحرب أعذر، فترك «فى السلم» وبه تمام المعنى كذلك.

وكذلك قول الحارث بن حلزة:

والعيش خير فى ظلال النوك ... ممن عاش كدا

أراد: العيش الناعم فى ظلال الجهل خير من العيش الشاق فى ظلال العقل.

والوجه الذى يقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال: إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله: «ومقتلهم عند الوغى» دليل «فى السلم» المحذوف، وإلا لخرج الكلام مخرج الأحاجى والألغاز، ولما استحق أن يدخل فى باب الأدب.

ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها فى القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى، وحق اللفظ.

فليس فيه إحسان فى موضع، وإساءة فى آخر، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره، وهذا هو الفرق الذى رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس.

فالناس- شعراؤهم وناثروهم- إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل، وإذا لم يكثروا منه- وهذا شرط قبوله- فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا فى السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلى، وغيرهم من عشاق البديع.

والبديع فى القرآن فطرى جرى مع طبيعة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015