الصّمّ، وانهدمت الشامخات العاليات فى سطوات أنواره ووجوم سنا أقداره)!! (?).
ولعلنا نتصور حالة العالم قبل الوحى الشرعى ومدى احتياجه إليه، ولا سيما فى بداية النصف الثانى من القرن السادس الميلادى حيث كان العالم مترديا فى حضيض
الظلمة والضياع، واستبدت به أسباب الفساد من كل جانب، وعصفت به رياح الشرك والكفران، فتداعى بناؤه العقدى والخلقى، وسادته جاهلية عمياء، وصار يترقب الهدم الذى يعقبه البناء، إذ عمه الفساد فى كل الأرجاء كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (?)، لقد فسر الإمام قتادة رضي الله عنه الفساد فى الآية الكريمة: بالضلالة والظلم (?)، وهذا تفسير محكم، لأن الضلالة تعنى فساد القوة النظرية، لفقدان نور الوحى الإلهى، والظلم:
يعنى فساد القوة العملية والجانب السلوكى، لفقدان استرشادهما بالإشعاع المعرفى اليقينى الذى يضيء القوة النظرية، فصلاح القوتين إذن متوقف على الوحى الذى هو هدى الله لعباده.
* من ثم: كان العالم قبل البعثة المحمدية متعطشا مستشرفا للوحى الذى يتوقف عليه رشده وصلاحه، أو بالأحرى: روحه ونوره، كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (?).
فالتعبير عن الوحى القرآنى- فى الآية الكريمة- بالروح يشير إلى أن العالم قبل هذا الوحى كان جثة هامدة بلا روح، وكذا التعبير عن هذا الوحى بأنه نور يشير إلى الظلمة الحالكة التى كان يرزح العالم فيها فى الجاهلية، ثم يشير قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا من الضلال الذى كان سائدا قبل الوحى المحمدى فى شتى الجوانب العقدية والسلوكية.
* وتتجسد حالة العالم قبل الوحى إليه جليا فى افتقاد مصدر الهداية فيما لا سبيل للعقل الوصول إليه من الجانب الغيبى فى أمور العقيدة، وأعلاها معرفة الله تعالى وصفاته القدسية وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز فى حقه تعالى.
كما تتجسد تلك الحاجة- فى توقف إدراك ما وراء الطبيعة من عالم ما بعد الموت من البرزخ والبعث والحساب والجزاء- على الأدلة السمعية التى تأتى بطريق الوحى.
وكذلك الهداية التشريعية التى تنظم