وقد نقل الحافظ أن هناك روايات عن الصحابة تكشف عن أن منهم من كانت معه هاتان الآيتان، منها عن خزيمة بن ثابت، وعثمان، وأبى بن كعب- رضى الله عنهم (?).
فأبو خزيمة لم ينفرد بتلقيهما، بل تلقاهما الكثير. وقد ذهب إلى ذلك أيضا أبو حيان.
وأرى: أن نفى زيد بن ثابت لوجود الآيتين كان نفيا لوجودهما من كل وجه. ولكن من المعقول أن يكون زيد بن ثابت قد اقتصر فى بحثه على أهل المدينة، ولا يعقل أنه ذهب لكل الأماكن لتقصى ذلك، والصحابة فى المدينة كانوا قليلين. ونحن لا نوافق شيخنا غزلان فى افتراض ذهول الأكثرين مع اشتراطه فى أول الكلام أن يكون النقلة من حيث العدد ممن تحيل العادة عليهم النسيان.
وخلاصة القول: أن هاتين الآيتين توفر لهما من شروط النقل ما توفر لسائر آى القرآن. ولقد حققت الكتابة غايتها المقصودة.
والظاهر أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمة الجمع وحده، بل عاونه غيره كأبى بكر وعمر وأبى كما تفيده الروايات المتعددة كما ذكر الحافظ فى «الفتح». ولقد تم الجمع فى العهد البكرى على أمثل ما يكون فى الاحتياط والعناية اللائقين بجلال القرآن.
ولقد عرف الصحابة لأبى بكر الصديق فضله حتى قال فيه علىّ: «أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله».
ومن أعظم فوائد الجمع فوق ما هو مقصود من حكمته الرئيسية الداعية إليه، اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبىّ صلّى الله عليه وسلم كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى على الشيوخ.
إذا كان الجمع الكتابى فى الصحف للقرآن قد تمّ فى العصر البكرى ليكون مرجعا للحفاظ عند إرادة العودة إليه، فقد كان الجمع العثمانى لغرض وداع آخر هو: تجريد
جميع المصاحف والصحف مما ليس بقرآن كالدعوات المأثورة، والتفسير، وما نسخت تلاوته، وحاشا أن يلبسوا على من بعدهم، ولكن ذلك كان بغرض حفظ القرآن وذلك بعد تفرق الصحابة الذين تلقيت القراءات على أيديهم فى الأمصار، وربما فسر صحابى لفظا غريبا أو معنى وألحقه تلامذته على مصاحفهم فوجدت فى المصاحف أشياء مذكورة ودعوات مثل دعاء الحفد والخلع، حتى استفحل الأمر، واتسع الخرق؛ فرأى الخليفة الراشد عثمان تدارك هذا الأمر، وجمع الناس على مصحف واحد جرده من كل هذه المصاحف، ونفى عنه كل ما ليس بقرآن، فى مصحف واحد يجرده من عين المصاحف البكرية التى لم يكن فيها إلا القرآن فحسب، على ما أخرج البخارى رضي الله عنه فى جمع القرآن