فلم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه».
ويستفاد من هذا الحديث أمور:
أولها: إعطاء كل حال حكمها اللائق بها؛ ولذا عملوا على جمع القرآن؛ لأن الحال تغير عنه فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم؛ فخوفا من ضياع شىء من القرآن جمع أبو بكر الصديق القرآن بعد أن شرح الله صدره وصدر عمر وزيد بن ثابت لذلك.
ثانيها: اختيار الأكفاء فى المهام الصعبة كاختيار أبى بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن لتوفر العقل والأمانة والديانة والشباب فيه.
والممارسة والخبرة التى لها دخل عظيم فى إنجاح الأعمال.
ثالثها: الشعور عند العمل العظيم بالمسئولية الجسيمة.
رابعها: دفع شبهة كيف لم يجد زيد بن ثابت هاتين الآيتين، وكيف اكتفى برجل واحد فى نقل قرآنيتهما؟
وقد دفع شيخنا غزلان هذه الشبهة بأن بدأ بذكر ما يجب مراعاته عند التعرض لهذه الشبهة:
1 - عدم إمكان أن يكون النبى صلّى الله عليه وسلم خصّ أبا خزيمة لتبليغ هاتين الآيتين؛ لأن القرآن لا يحل روايته بالمعنى، فلا يمكن الاطمئنان إلى روايته بلفظه دون تغيير حرف منه إلا تبليغ جماعة كبيرة.
2 - أن إجماع الصحابة على أن كتابتهما فى المصحف لا تكون برواية الواحد؛ ولذا لا بدّ أن الصحابة كتبوهما بعد روايتهما عن جماعة كثيرة، ويكون معنى كلام زيد: «لم أجدهما مع أحد غيره» دائرا بين أمرين: إما أن يكون مراده أنه لم يجدهما مكتوبتين عند أحد غير أبى خزيمة، فهو انفراد بكتابتهما فقط.
وإما أن يكون مراده أنه انفرد بكتابتهما وحفظهما، فلم يجدهما عند غير أبى خزيمة، فظل أبو خزيمة لمّا علم ذلك يحدث بهما ويحدث بهما أيضا زيد بن ثابت، حتى حفظها من لم يحفظها وتذكرها من نسيها حتى تواتر نقلها، فتوفر شرط القرآنية لهاتين الآيتين فأثبتهما زيد فى المصحف.