المطلب الثالث: أصل شبهتهم والرد عليها

مدار شبهة الواقفة – سواء ممن يجوزون النفي أو الإثبات، أو من يسكتون عنهما معاً – راجع إلى اعتقادهم أن ليس في النصوص ما يقطع بأحد الأمرين، ومن ثم ساغ لهم أن يرتضوا الشك والحيرة في هذا الأمر الجلل، بل ربما استحسنوا ذلك وطلبوه، بل قد نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زدني فيك تحيراً)، وهو كذب باتفاق أهل العلم بحديثه صلى الله عليه وسلم (?).

الرد عليهم:

ليس المراد في هذا المقام بيان صحة مذهب الإثبات وبطلان مذهب النفي، بل المقصود بيان فساد مذهب (التوقف) بنوعيه. ويمكن إجمال الرد عليهم في الأمور التالية:

1 - أن مسلك (التوقف) مخالف لما أنزل الله القرآن من أجله، وهو التدبر والذكرى، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص: 29]. ومن جوز الأمرين، أو أعرض، لم يشتغل بأجل مقاصد القرآن.

2 - أن هذا المسلك مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من اعتقاد الإثبات مع التنزيه، ولم يحفظ عن أحد من السلف التوقف في هذه المسألة.

3 - (إن كان الذي يحب الله منا أن لا نثبت ولا ننفي، بل نبقى في الجهل البسيط، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، ولا الصدق من الكذب؛ بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين للحيارى مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 143]، لا مصدقين ولا مكذبين: لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.

ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام: 72].

وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7].

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (?). فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال الله تعالى له: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]) (?).

فـ (الوقوف في ذلك جهل وعي، مع أن الرب – سبحانه – وصف لنا نفسه بهذه الصفات؛ لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياه. فما وصف لنا نفسه إلا لنثبت ما وصف به نفسه، ولا نقف في ذلك) (?).

وبهذا يتبين فساد مسلك (الواقفة) وأنه مبني على الجهل, والشك, والحيرة، وأنهم أبعد الناس عن (اليقين) و (الجزم) الذي هو الأصل في الاعتقادات. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 135

طور بواسطة نورين ميديا © 2015