أن دعوى الصحبة يتوقف ثبوتها على ثبوت عدالة مدعيها، حيث لا تقبل دعوى الصحبة إلا من عدل، وثبوت عدالة مدعيها تتوقف على ثبوت صحبته، وذلك: أن دعوى الصحبة تشتمل ضمناً على دعوى العدالة، لما هو معلوم من أن الصحابة كلهم عدول، ولا شك أن توقف ثبوت الصحبة على ثبوت العدالة، وتوقف ثبوت العدالة على ثبوت الصحبة يلزمه الدور (?).
وعن مسألة الدور هذه، لأصحاب المذهب الثاني أن يجيبوا:
بأن دعوى الصحبة وإن توقفت على ثبوت عدالة مدعيها، فإن عدالة مدعيها لا تتوقف على ثبوت الصحبة، فقد تثبت عدالة الرجل وإن لم تثبت صحبته، فانفك الدور.
كما يجاب – أيضاً – عن قولهم: إنه متهم بدعواه رتبة يثبتها لنفسه ... إلخ.
بما قاله الفراء في (العدة) من أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك.
يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه.
فإن قيل:
لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه، لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا.
قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر. كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع وإن عاد نفعه إليه، ويفارق هذا الشهادة والدعوة، لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك.
وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع فجاز قوله (?).
المذهب الرابع:
التفصيل في ذلك:
فمن ادعى الصحبة القصيرة قبل منه، لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل، إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو رؤيته له أحد.
ومن ادعى الصحبة الطويلة، وكثرة التردد في السفر والحضر فلا يقبل منه ذلك، لأن مثل ذلك يشاهد وينقل ويشتهر، فلا تثبت صحبته بقوله كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) (?).
ج- قول أحد الصحابة بصحبة آخر:
وهو إما أن يكون بطريق التصريح، كأن يقول الصحابي: إن فلاناً صحابي، أو من الأصحاب، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون بطريق اللزوم، كأن يقول: كنت أنا وفلان عند النبي، أو سمع معي هذا الحديث فلان من النبي، أو دخلت أنا وفلان على النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أن هذا الطريق الأخير، إنما تثبت فيه الصحبة، إذا عرف إسلام المذكور في تلك الحالة، كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) (?).
وقد مثلوا لثبوت صحبة الصحابي بقول صحابي آخر، بحممة بن أبي حممة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطوناً، فشهد له أبو موسى الأشعري - وهو من الصحابة المشهورين – أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكم له بالشهادة ذكر ذلك أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) (?).
وقد استدرك العراقي على ما ذكره أبو نعيم بقوله:
(على أنه يجوز أن يكون أبو موسى إنما أراد بذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لمن قتله بطنه، وفي عمومهم حممة، لا أنه سماه باسمه والله أعلم) (?).
وبناء على ما استدركه العراقي لا يصح التمثيل بحممة، إذ ليس في ذكر أبي موسى ما يفيد التصريح بإثبات صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ليس نصاً، وإنما هو محتمل، وما تطرقه الاحتمال يسقط به الاستدلال.