الوجه الرابع عشر: قوله: ولا وجه للعدول بالآيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن, وسلبت الإيمان عمن لم يعمل أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات، ثم إذا دلت على أنه عربي فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربيا؛ ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك لم يقولوا: هذا ليس بعربي، بل خاطبهم باسم المنافقين، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: أنه ليس بعربي؛ لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج، فإذا كان اللفظ مشتقاً من لغتهم وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم، لم يخرج ذلك عن كونه عربيا.
الوجه الخامس عشر: أنه لو فرض أن هذه الألفاظ ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ بأعظم من إخراج لفظ الإيمان عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعمل شيئاً من الواجب، ولا يترك شيئا من المحرم، كثيرة صريحة، فإذا قدر أنه عارضها آية، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولى من رد النصوص الكثيرة الصريحة.
السادس عشر: أن هؤلاء واقفة في ألفاظ العموم، لا يقولون بعمومها، والسلف يقولون: الرسول وقفنا على معاني الإيمان، وبيَّنه لنا، وعلمنا مراده منه بالاضطرار، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل: أنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى، ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له، يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن). اهـ (?).
3 - وقال رحمه الله أيضا: (وأما المقدمة الثانية فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق، فقولهم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان عنه جوابان:
أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني، وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (?)، وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصِّدِّيقُ مثال الفِّسِّيقِ، الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وهذا مشهور عن الحسن، يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج، حدثنا أبو عبيدة الناجي، عن الحسن قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)، من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحاً رفعه العمل، ذلك بأن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ [فاطر: 10]. ورواه ابن بطة من الوجهين: وقوله: ليس الإيمان بالتمني, يعني الكلام، وقوله: بالتحلي, يعني أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم). اهـ (?).