والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق، بل هو تصديق خاص، مقيد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفه وبينه.
والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى.
الخامس: قول من يقول: أن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً.
السادس: قول من يقول: أن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي.
السابع: قول من يقول: أنه منقول.
فهذه سبعة أقوال:
الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق بل بمعنى الإقرار وغيره.
قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق.
فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟
الثاني: أن يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقوله لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد أو اثنان فليس هذا إجماعاً.
الرابع: أن يقال هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا عنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلاماً عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي، وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يدره، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا: هذا فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق؟ فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل: فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به، وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين، حتى انتهى إلينا فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظاً ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر ونحو ذلك، على ما هو معناها في القرآن، وإلا فلو كلفنا نقلاً متواتراً لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لاسيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به، والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفاً على شيء من ذلك، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن كما بلغوا لفظه، ولو قدرنا أن قوماً سمعوا كلاماً أعجمياً وترجموه لنا بلغتهم، لم نحتج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولاً.