ولو قدر أن بعضهم نقل كلاماً عن العرب يُفهم منه أن الإيمان هو التصديق، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم تواتر، بل نقلهم ذلك ليس بأبلغ من نقل المسلمين كافة لمعاني القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم (?) إذ ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد (?).

فنحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به، وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن (?).

إن الألفاظ لا ينطق بها ولا تستعمل إلا مقيدة، إذ لا يوجد في الكلام حال إطلاق محض للألفاظ، بل الذهن يفهم من اللفظ في كل موضع ما يدل عليه اللفظ في ذلك الموضع (?).

والشارع قد استعمل الألفاظ أيضاً مقيدة لا مطلقة، كقوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] وكذلك قوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة: 158]. فذكر حجاً خاصاً وهو حج البيت، فلم يكن لفظ الحج متناولاً لكل قصد، بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه من غير تغيير. فالحج المخصوص الذي أمر الله به دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام، فإذا قيل: الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبين أنه حج البيت (?).

وكذلك لفظ الزكاة، بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وسماها الزكاة المفروضة، فصار لفظ الزكاة إذا عرف باللام ينصرف إليها لأجل العهد، ولفظ الإيمان أمر به مقيداً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك لفظ الإسلام بالاستسلام لله رب العالمين، وكذلك لفظ الكفر مقيداً، فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء، كخطاب الناس بغيرها، وهو خطاب مقيد خاص لا مطلق يحتمل أنواعاً (?).

وقد بين الرسول تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا يقال إنها منقولة، ولا إنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقاً، وهو إنما قال: (أقيموا الصلاة) بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفاً إلى الصلاة التي يعرفونها، لم ينزل لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه، وكذلك الإيمان والإسلام وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور (?).

فالواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل في القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله (?).

الأصل الثاني: أن لفظ الإيمان ليس مرادفاً للفظ التصديق معنى واستخداماً:

وأما عن الأصل الثاني، فإن لفظ الإيمان يباين لفظ التصديق، سواء من حيث مواقع الاستخدام في اللغة أو من حيث المعنى. فأما من حيث الاستخدام فإن الإيمان يختلف عن التصديق من عدة وجوه:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015