4 - وأقرب مثال على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال: إذا كان معلوماً أن الله قد علم وكتب أن فلاناً يتزوج امرأة ويطؤها ويولد له، وأن فلاناً يبذر البذر فينبت الزرع ... إلخ ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر هنا فيقول: أنا لا أتزوج أو أطأ امرأة، فإن كان قدر الله أن يولد لي ولد فسيولد، أو يقول: أن لا أبذر البذر، فإن كان قدر الله أن تنبت أرضي زرعاً فستنبت، لأن من قال هذا عد من أجهل الجاهلين، إذا وضح هذا المثال فنقول: إن الله تعالى علم وكتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة، وفلاناً يعصي ويفسق فيدخل النار، وحينئذ فمن قال: إن كنت من أهل الجنة فأنا سأدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضاً، لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضاً لما علمه الله وقدره، وهذا شبيه بمن قال: أنا لا أطأ امرأة, وإن كان قد قدر أن يأتيني منها ولد فسيأتيني (?).
ومعلوم أن جميع الأسباب قد تقدم علم الله بها، وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، ومنها الأسباب التي بها يخلق الله النبات من المطر وغيره، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده, ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب فهو ضال جاهل من وجهين:
أحدهما: (من جهة كونه جعل العلم جهلاً: فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب, لأن ذلك هو الواقع فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب, فقد قال على الله الباطل, وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء) (?)، فالله أخبر أن الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب, فلو قال قائل: إن الله قد أخرج آدم بلا ذنب, وأنه قد قدر عليه، أو قال: إن الله قد غفر لآدم بلا توبة، وأنه قد علم ذلك، كان هذا كذباً وبهتاناً, بخلاف ما إذا أقر بأن آدم قد أذنب، وأنه قد تاب فتاب الله عليه، وكل ذلك مقدر، فإنه يكون صادقاً، ويقاس على ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أن السعادة والشقاوة تكون بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها (?).