ثم بعث رسله، وأنزل عليهم وحيه، وأمرهم بالبلاغ لخلقه، فبلغوا رسالات ربهم، ونصحوا قومهم، فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر، قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2] أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا أبداً، يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره عن أن ينسب ربنا إلى الظلم، إنما يظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا عز وجل فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرَّى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده، وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبته منه لها، ولا للأمر بها، تعالى الله عز وجل أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها، وجل ربنا وعز أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن يخلقهم، قبل أن يعملوا قضاء وقدراً. قد جرى القلم بأمره عز وجل في اللوح المحفوظ بما يكون، من برّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، لولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها، وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: هذا مذهبنا في القدر (?). الشريعة للآجري -1/ 319
ويقول الطحاوي رحمه الله في القدر: خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.
وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء الله لهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً. وكلهم متقلبون في مشيئته بين فضله وعدله. وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلًّا من عنده. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز – 1/ 125