وهذا يدل على أن الأصل تخفيف نزع روح المؤمن، إلا أنها قد تشدّد على من أراد الله سبحانه وتعالى من المؤمنين؛ تكفيراً لسيئاتهم، أو رفعاً لدرجاتهم؛ قال القرطبي في معرض حديثه عن سكرات الموت: قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء فما لنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ قالوا وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته فله فائدتان:
أحدهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار ....
الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين. فالجواب: أن ((أشد الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) (?) كما قال نبينا عليه السلام ... فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً ولا عذاباً، بل هو .. كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم، كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار وعيسى بالصحارى والقفار، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم.
ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين؛ فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا) (?).
فشدة السكرات تخفف من الذنوب، وكل ما يصيب الإنسان من مرض أو شدة أو هم أو غم حتى الشوكة تصيبه فإنها كفارة لذنوبه، ثم إن صبر واحتسب كان له مع التكفير أجر ذلك الصبر الذي قابل به هذه المصيبة التي لحقت به، ولا فرق في ذلك بين ما يكون عند الموت، وما يكون قبله، فالمصائب كفارات لذنوب المؤمن، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها))، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفر به من سيئاته))، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 86