وإذا أنت قارنت بين ما نقلته عن إنجيل برنابا وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة أدركت أن الذي أدخل هذه الأوصاف كان من هذا النوع الذي عشعشت أمثال هذه الأحاديث المكذوبة في ذهنه.

وهناك أمور منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً، لأنها تخالف الحقَّ الذي في أيدينا، فمن ذلك ما ورد (ص209) من (أن الجحيم ترتعد لحضور الرسول عليه السلام، فيمكث بلا مكابدة عقاب مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشاهدة الجحيم). فهذا مخالف لصريح القرآن لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75].

ومن ذلك نقل هذا الكتاب عن عيسى قوله في (ص92): (لست أهلاً أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله) ويقول قريباً من هذا في ص (96) وص (160)، ومثل هذا بعيد أن يصدر عن رسول من أولي العزم من الرسل. ومع ذلك فقد وصف الكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور فيها تحقير له، ففي ص (108) يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه سيكون كالمخبول، وفي ص (105) يقول: (إن الله سيجرد رسوله محمد في يوم القيامة من الذاكرة). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 178

ومن البشارات به في الإنجيل ما في الفصل الخامس عشر من الإنجيل الذي جمعه يوحنا: (أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله الله هو يعلم كل شيء). انتهى.

وفي موضع آخر منه: (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الله هو يعلم كل شيء, وهو يذكركم ما قلت لكم) , وفي موضع آخر منه: (إذا جاء الفارقليط الذي أرسله الله روح الحق الذي هو يشهد لي, قلت لكم هذا حتى إذا كان يؤمنون به ولا يشكون فيه).

وفي الفصل السادس عشر منه: لكني أقول لكم الحق: (إنه خير لكم أن أنطلق, لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط, فإذا انطلقت أرسلته إليكم, فهو يوبخ العالم على الخطيئة, وعلى البر, وعلى الحكم, أما على الخطيئة فإنهم لم يؤمنوا بي, وأما على البر فإني منطلق ولستم تروني, وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان, وأن لي كلاماً كثيراً لستم تطيقون كله الآن, لكن إذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق, لأنه ليس ينطق من عنده, بل يتكلم بما يسمع, ويخبركم بكل ما يأتي). انتهى.

وقد تكرر ذكر الفارقليط في الإنجيل, وأنذر به المسيح, وبشر به قومه في غير موضع منه, وقد اختلفوا في المراد فالفارقليط في لغتهم على أقوال, وذهب الأكثر من النصارى إنه المخلص, وقالوا: هو مشتق من الفاروق, أو من فارق, قالوا ومعنى ليط كلمة تزاد كما يقال رجل هو, وحجر هو, وعالم هو, وجاهل هو.

وقد تقرر أنه لا نبي بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم, وهذه البشارات قد تضمنت أنه سيأتي بعد المسيح نبي يخلص تلك الأمة مما هم فيه, ويوبخهم على الخطية, ويتكلم بما يسمع, ويخبر بكل ما يأتي, ولم يكن هذا لأحد بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم, ومما يدل على أن المراد بالفارقليط هو نبينا صلى الله عليه وسلم أنه وقع الحذف بهذا اللفظ من بعض نسخ الإنجيل مع ثبوته في غالبها, وليس ذلك إلا تغييراً وتبديلاً من النصارى لما يعلمونه من أن المراد بهذا اللفظ هو التبشير بنبي يأتي بعد المسيح, وأنها ستقوم بذلك الحجة عليهم, فحذفوا هذا اللفظ لهذه العلة, وقد حكى الله سبحانه في القرآن العظيم أن المسيح بشر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وفي الإنجيل الذي جمعه يوحنا أن المسيح قال: (أركون العالم سيأتي, وليس لي شيء) وهذا اللفظ فيه أعظم بشارة بنبينا محمد, فإن الأركون في لغة النصارى العظيم القدر, ولم يأت بعد المسيح من هو بهذه الصفة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم, فإنه جعله أركون العالم, وقال عن نفسه ليس له من الأمر شيء, فدل هذا على أنه سيأتي بعده عظيم من عظماء العالم, يكون منه الإصدار والإيراد, والحل والعقد في الدين وإثبات الشرائع, وأن المسيح بالنسبة إليه كمن ليس له شيء, وهذا إنما يكون تبشيراً بمن هو أعظم من المبشر به أعني المسيح عليه السلام, ولا يصح حمله على رجل عظيم القدر في الدنيا, أو في الملك, أو غير ذلك, لأن الأنبياء لا يبشرون بمن هو كذلك ويجعلونه أركون العالم, ويجعلون الأمر إليه, وينفون الأمر عن أنفسهم, فإن هذا لا يكون أبداً من الأنبياء, ولا يصح نسبته إليهم, ولا صدوره منهم قط بلا خلاف بين أهل الملل, ولا يمكن أن يدعي مدع أنه جاء بعد المسيح من هو بهذه الصفة غير نبينا صلى الله عليه وسلم, فإن الحواريين إنما دانوا بدينه, ودعوا الناس إلى شريعته, ولم يستقل أحد منهم بشيء من جهة نفسه قط, ومن جاء بعدهم من أتباع المسيح فهو دونهم بمراحل. الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - 1/ 518

طور بواسطة نورين ميديا © 2015