فإن القرآن حكى ذلك كما هو, وذكره بصفته من غير مخالفة, ثم ما كان من الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عند قيام المسيح فإن القرآن الكريم حكى قصصهم, وما جرى لهم, وما قالوه لقومهم, وما قاله قومهم لهم, وما وقع بينهم من الحوادث, وكان ما حكاه القرآن موافقاً لما في كتب نبوة أولئك الأنبياء من غير مخالفة, ثم هكذا ما حكاه القرآن عن نبوة المسيح, وما جرى له, وأحواله وحوادثه, فإنه موافق لما اشتمل عليه الإنجيل من غير مخالفة, ومعلوم لكل عاقل يعرف أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب, وكان منذ ولد إلى أن بعثه الله عز وجل بين قومه, وهم قوم مشركون لا يعرفون شيئاً من أحوال الأنبياء, ولا يدرون بشيء من الشرائع, ولا يخالطون أحداً من اليهود والنصارى, ولا يعرفون شيئاً من شرائعهم, وإن عرفوا فرداً منها فليس ذلك إلا في مثل ما هو متقرر بينهم يعملون به في عباداتهم ومعاملاتهم باعتبار ما يشتهر عنهم في ذلك كما يبلغ بعض أنواع العالم عن البعض الآخر, فإنه قد يبلغهم بعض ما يتمسكون به في دينهم باعتبار اشتهار ذلك عنهم, وأما العلم بأحوال الأنبياء وما جاءوا به, وإلى من بعثهم الله, وما قالوا لقومهم, وما أجابوهم به, وما جرى بينهم من الحوادث كلياتها وجزئياتها, وفي أي عصر كان كل واحد منهم, وإلى من بعثه الله, وكون هذا النبي كان متقدماً على هذا, وهذا كان متأخراً عن هذا, مع كثرة عددهم, وطول مددهم, واختلاف أنواع قومهم, واختلاف ألسنتهم, وتباين لغاتهم, فهذا أمر لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل, ولولا اشتمال التوراة على حكاية أحوال من قبل موسى من الأنبياء لانقطع علم ذلك عن البشر, ولم يبق لأحد منهم طريق إليه البتة, فلما جاءنا هذا النبي العربي الأمي المبعوث من بين طائفة مشركة, تعبد الأوثان, وتكفر بجميع الأديان, قد دبروا دنياهم بأمور جاهلية تلقاها الآخر عن الأول, وسمعها اللاحق من السابق, لا يرجع شيء منها إلى ملة من الملل الدينية, ولا إلى كتاب من الكتب المنزلة, ولا إلى رسول من الأنبياء المرسلة, بل غاية علمهم, ونهاية ما لديهم ما يجري بين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة, وما يحفظونه من شعر شعرائهم, وخطب خطبائهم, وبلاغات بلغائهم, وجود أجوادهم, وإقدام أهل الجرأة والجسارة منهم, لا يلتفتون مع ذلك إلى دين, ولا يقبلون على شيء من أعمال الآخرة, ولا يشتغلون بأمر من الأمور التي يشتغل بها أهل الملل, فإن راموا مطلباً من مطالب الدنيا, ورغبوا في أمر من أمورها, قصدوا أصنامهم, وطلبوا حصولها منها, وقربوا إليها بعض أموالهم ليبلغوا بذلك إلى مقاصدهم ومطالبهم, وكان هذا النبي العربي الأمي لا يعلم إلا بما يعلمون, ولا يدري إلا بما يدرون, بل قد يعلم الواحد منهم, المتمكن من قراءة الكتب وكتابة المقروء بغير ما يعلمه هذا النبي, فبينما هو على هذه الصفة بين هؤلاء القوم البالغين في الجهالة إلى هذا الحد جاءنا بهذا الكتاب العظيم الحاكي لما ذكرناه من تفاصيل أحوال الأنبياء وقصصهم, وما جرى لهم مع قومهم على أكمل حال, وأتم وجه, ووجدناه موافقاً لما في تلك الكتب غير مخالف لشيء منها, كان هذا من أعظم الأدلة الدالة على ثبوت نبوته على الخصوص, وثبوت نبوة من قبله من الأنبياء على العموم, ومثل دلالة هذا الدليل لا يتيسر لجاحد ولا لمكابر ولا لزنديق مارق أن يقدح فيها بقادح, أو يعارضها بشبهة من الشبه كائنة ما كانت, إن كان ممن يعقل ويفهم, ويدري بما يوجبه العقل من قبول الأدلة الصحيحة التي لا تقابل بالرد, ولا تدفع بالمعارضة, ولا تقبل التشكيك, ولا تحتمل الشبهة, ومع هذا فقد كان النبي الأمي المبعوث بين هؤلاء يصرح بين ظهرانيهم ببطلان ما هم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015