ومما يوضح هذا التعليل أن بلاد فارس والعراق وغيرها قد تعرضت إلى هجمات فكرية عنيفة من الصابئة ودهاقنة الفرق يعاونهم اليهود والنصارى، والسمنية الهنود، الذين كانوا يطوفون في البلاد الإسلامية ويزرعون الشبه والشكوك، ولا شك أن هذه الجماعات قد نشأت ونظمت نفسها، وبدأت عملها في القرن الأول الهجري.

ومن أمثلة ذلك ما روي أن مجموعة من الملاحدة سألوا (?): (ما الدلالة على وجود الصانع، فقال لهم: دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب، قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة؛ وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال وما ذاك؟ قالوا: أهذا يصدقه عاقل؟ فقال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرم؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام) (?).

ومنها أيضاً أولئك السمنية الهنود الذين جادلوا الجهم بن صفوان (ت 128هـ) في الإله المعبود فتحير الجهم، ولم يدر ما يجيب وتوقف عن الصلاة أربعين يوماً حتى يتبين له ما يعبد بزعمه، ثم أحدثت هذه المجادلة الانحراف الكبير في عقلية الجهم؛ مما حدا به إلى نفي الصفات، وفتح باباً كبيراً من أبواب الشر في عقيدة الأمة (?).

فهذه الموجات الإلحادية التي غزت العالم الإسلامي في مراحل تكونه الأولى كانت من أهم الأسباب التي فتحت باب الجدل في وجود الله تعالى، وفي أسمائه وصفاته، على تلك الطريقة المبتدعة المذمومة، التي خالفت ما جاء به الكتاب والسنة من تقرير هذه المسائل بالطريقة السهلة الميسرة المقبولة.

وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أصول هذه المقالات المبتدعة هم الجهمية وغيرهم من فرق الابتداع، فقال: (إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة، فكيف ينكر ذلك كثير من النظار؛ نظار المسلمين وغيرهم، وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية، فيقال لهم ... أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة – هم أهل الكلام؛ الذين اتفق السلف على ذمهم، من الجهمية، والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف، وأجهلهم، ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين؛ الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء مسلمين، وليس كذلك إنما صدر أولاً عمن ذمه أئمة الدين، وعلماء المسلمين) (?).

وتبعا لهذا الانحراف ... في تقرير وجود الله تعالى عند الجهمية، والمبتدعة اتسع انحراف المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، فاشترطوا النظر والاستدلال، والشك لحصول العلم بالصانع بزعمهم، وقد فند شيخ الإسلام هذا الزعم الباطل، فقال: (ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول المتكلمين، ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام، ابتدعه متكلمو المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم، وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة، والشيعة، وغيرهم، وقالوا: بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي، لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال ... بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله، والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل النظر) (?). العقيدة الإسلامية لعطا الله بخيت المعايطة – ص: 13

طور بواسطة نورين ميديا © 2015