ولم تكن المسألة عند السلف موضع نظر وأخذ ورد, ولم تكن لهم بها عناية فائقة بحيث ينصبونها موضوعاً للنظر والاستدلال, ولم يقع بينهم فيها كلام وخلاف، وقد رويت عن الصحابة أحاديث موقوفة ومرفوعة فيها ذكر لهذه المسألة في بعضها تفضيل المؤمن على الملائكة, وبعضها تفضيل المؤمن على بعض الملائكة, وبعضها تفضيل بني آدم على الملائكة, ولكنها أحاديث إما ضعيفة أو موضوعة مثل حديث: ((المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة)) (?). وحديث: ((أن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نلهو, فكما جعلت لهم الدنيا فأجعل لنا الآخرة فقال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان)) (?). وحديث: ((ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من بني آدم، قيل: يا رسول الله, ولا الملائكة؟ قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر)) (?). وكلها ضعيف وموضوع.
وقال ابن تيمية بعد ذكر بعض هذه الأحاديث: (وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك، إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها, وتفرق الآراء, فقد كان ذلك المستقر عندهم) (?). وقال: (قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالح البشر على الملائكة, وتروى على رؤوس الناس ولو كان هذا منكراً لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك) (?).
وقد جاء عن الإمام أحمد أنه كان يفضل صالحي المؤمنين على الملائكة, ويخطئ من يفضل الملائكة على بني آدم (?).
وقد فصل ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلاً طويلاً, قرر فيه مذهب أهل السنة تفضيل صالح البشر على الملائكة (?). ونقل عنه ابن القيم: (أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية, والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم, مستغرقون في عبادة الرب, ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر, وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة) قال: (وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل, وتتفق أدلة الفريقين, ويصالح كل منهم على حقه) (?). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي- ص354