علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم، لأن القول بذلك يستلزم بناء على ما سبق من كلامه أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟! ويؤيده:
الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة ...
الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجداً، عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (?)، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت مُنصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول، قلنا: فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بيّن. ويؤيده:
الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها، وهذا بيّن لا يخفى والحمد لله، وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا:
1 - عن عبدالله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور، فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوّي (?).
2 - عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (?) ...
3 - عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: ((إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقةٍ، أو خارقةٍ))، قالوا: أو سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله صلى الله عليه وسلم (?).
4 - عن أنس: كان يكره أن يُبنى مسجد بين القبور (?).
5 - عن إبراهيم أنه: كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً (?).
وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام، وهو تابعي صغير مات سنة 96هـ، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرون بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم، فمتى نسخ؟ !