وَلَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الشَّرْعِ لِلنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا حَتَّى نَزَلَ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَةِ: 219] ؛ فَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّ الْأَضْرَارَ فِيهَا أَكْبَرُ مِنَ الْمَنَافِعِ1، وَتُرِكَ الْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أَرْبَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَالْحُكْمُ لِلْمَفْسَدَةِ، وَالْمَفَاسِدُ مَمْنُوعَةٌ2؛ فَبَانَ وَجْهُ الْمَنْعِ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَى الْمَنْعِ -وَإِنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ- تَمَسَّكُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ الْأَصْلِ الثَّابِتِ لَهُمْ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ، وَدَخَلَ لَهُمْ تَحْتَ الْعَفْوِ، إِلَى أَنْ نَزَلَ مَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوه} ؛ فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَارْتَفَعَ الْعَفْوُ, وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 93] ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ3، فَرَفْعُ الْجُنَاحِ هُوَ مَعْنَى4 الْعَفْوِ.
وَمِثَالُ5 ذَلِكَ الرِّبَا الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ بُيُوعُ الْغَرَرِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ؛ كَبَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ، وَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، كُلُّهَا كَانَتْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ في معنى