الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْخَاصِّ بِالْعُلَمَاءِ وَالْعَامِّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُوَضِّحُ النَّوْعَيْنِ، وَيُبَيِّنُ جِهَةَ الْمَأْخَذِ فِي الطَّرِيقَيْنِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ الْمَكِّيَّةَ وَهِيَ الْأَوَّلِيَّةُ كَانَتْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، وَجَارِيَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَجَارِي الْعَادَاتِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعُقُولِ، وَعَلَى مَا تَحْكُمُهُ1 قَضَايَا مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنَ التَّلَبُّسِ بِكُلِّ2 مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَاسِنَ الْعَادَاتِ، وَالتَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُنْكَرٌ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فِيمَا سِوَى مَا الْعَقْلُ مَعْزُولٌ عَنْ تَقْرِيرِهِ جُمْلَةً مِنْ حُدُودِ الصَّلَوَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا3، فَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي تِلْكَ الْعَادَاتِ، وَمَصْرُوفًا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ لِيَأْخُذَ كُلٌّ بِمَا لَاقَ بِهِ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الْكُلِّيَّاتِ، وَمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تِلْكَ الْمَكَارِمِ فِي التَّوَجُّهِ بِهَا لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي إِعَانَةِ الْمُحْتَاجِينَ، ومؤاساة الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُقَرَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، عَلَى حَسَبِ مَا تُسْتَحْسِنُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ فِي ذَلِكَ التَّرْتِيبِ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِ الْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لم ينص على تقييدها بعد.