وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَيَحْكِي كَرَاهِيَّتَهُ عمَّن تقدَّم1.
وَبَيَانُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
- مِنْهَا: أَنَّهُ شُغْلٌ عَمَّا يَعْنِي مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ الَّذِي طُوِّقَه المكلَّف بِمَا لَا يَعْنِي، إِذْ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ؛ لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ2 يُسأل عَمَّا أُمر بِهِ أَوْ نُهي عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ فِي تَدْبِيرِ رِزْقِهِ وَلَا يَنْقُصُهُ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الحاصلة منه فِي الْحَالِ؛ فَلَا تَفِي مَشَقَّةَ اكْتِسَابِهَا وتعبُ طَلَبِهَا بِلَذَّةِ حُصُولِهَا، وَإِنْ فُرض أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فِي الدُّنْيَا؛ فَمِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا فَائِدَةً شَهَادَةُ الشَّرْعِ لَهَا بِذَلِكَ، وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ وَفَائِدَةٍ يَعُدُّهَا الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ وَلَيْسَتْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا عَلَى الضِّدِّ؛ كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفِسْقِ، وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ عَاجِلٌ، فَإِذًا قَطَعَ الزَّمَانَ فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً فِي الدَّارَيْنِ، مَعَ تَعْطِيلِ مَا يجني الثمرة من فعل ما لا يَنْبَغِي.
- وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْعَ3 قَدْ جَاءَ بِبَيَانِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ يُظن أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ثَمَرَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْفِتْنَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيَثُورُ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ والتعصُّب، حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا4، وَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ، ولم يكن أصل التفرق5 إلا بهذا