الموافقات (صفحة 1348)

وأما الثالث:

هو مَحَلُّ الْإِشْكَالِ وَالْغُمُوضِ، وَفِيهِ اضْطَرَبَتْ أَنْظَارُ النُّظَّارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لِحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، وَلَا تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ، وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ؛ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ، شَهَادَةٌ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَالتَّحَيُّلُ جَائِزٌ، أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَالتَّحَيُّلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أَجَازَ التَّحَيُّلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنَّمَا أَجَازَهُ بِنَاءً1 عَلَى تَحَرِّي قَصْدِهِ وَأَنَّ مَسْأَلَتَهُ لَاحِقَةٌ بِقِسْمِ التَّحَيُّلِ الْجَائِزِ الَّذِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَا تَصْدُرُ2 مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، فَضْلًا عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَعُلَمَاءِ الدِّينِ، نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ وَلِمَا وُضِعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ؛ فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ، بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ؛ فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّلَ؛ فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا، وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، بَلْ هِيَ أَوَّلُ مَا يُتَلَقَّى مِنْهُ فَهْمُ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا، حَتَّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 3

طور بواسطة نورين ميديا © 2015