التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ1، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَعَ الْحُكْمَ لِمَصْلَحَةٍ مَا، فَهُوَ الْوَاضِعُ لَهَا مَصْلَحَةً، وَإِلَّا، فَكَانَ يُمْكِنُ عَقْلًا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ؛ إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ ولا قبح؛ فإذن كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ، فَالْمَصَالِحُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَصَالِحُ قَدْ آلَ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا تَعَبُّدِيَّاتٌ2، وَمَا انْبَنَى عَلَى التَّعَبُّدِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا تَعَبُّدِيًّا.
وَمِنْ هُنَا يَقُولُ الْعُلَمَاءُ3: إِنَّ مِنَ التَّكَالِيفِ "مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ خَاصَّةً"، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ" وَيَقُولُونَ فِي هَذَا الثَّانِي: إِنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ، كَمَا فِي قاتل العمد إذ عفي عنه ضُرِب مئة وسُجِن عَامًا، وَفِي الْقَاتِلِ غِيلَةً إِنَّهُ لَا عفوَ فِيهِ، وَفِي الْحُدُودِ إِذَا بَلَغَتِ السُّلْطَانَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ كَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ وَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ بَائِعِ الْجَارِيَةِ إِسْقَاطُ الْمُوَاضَعَةِ وَلَا مِنْ مُسْقِطِ الْعِدَّةِ عَنْ مُطَلِّقِ الْمَرْأَةِ4، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا حَقًّا لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ وَإِنْ عُقِلَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الْحُكْمُ، فقد صار إذن كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقًّا لِلَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ، فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ للعبد حقا أصلا5.