المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء:
الأصول لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ومحققاَ
للاجتهاد فيه، وإذا كان كذلك، فالتوقع أن يكون الفقهاء تابعين
للأصوليين في اعتبار حقيقة السبب.
لكن الواقع من الفقهاء غير ذلك فهم في كتب الفروع يطلقون
لفظ " السبب " على عدة أمور قد تبدو مخالفة لما اصطلح عليه
الأصوليون في مفهوم السبب، لذلك أتيت بهذه المسألة تنبيهاً على
ذلك فأقول: إن الفقهاء يطلقون لفظ " السبب " على أربعة إطلاقات
هي كما يلي:
الإطلاق الأول: أنهم يطلقونه في مقابل المباشرة فقالوا: لو حفر
زيد بئراً، ثم جاء عمرو ودفع محمداً في البئر، فتردى فيها، فهلك
محمد، فإن الحافر - وهو زيد - صاحب سبب، والمردي - وهو
عمرو - صاحب علَّة، لأن الهلاك بالتردية، لا بالحفر، ولكن وقع
ذلك عند وجود البَئر فسموا الحافر سبباً، والدافع مباشراً، وكذلك
لو ألقى شخص شخصاً آخر من شاهق فتلقاه آخر بسيف، فإن
الضمان على المتلقي بالسيف لأنه مباشر، وهناك أمثلة كثيرة على هذا
تجدها مبسوطة في قواعد ابن رجب، والأشباه والنظائر للسيوطي
وغيرهما.
الإطلاق الثاني: أنهم يطلقونه على عِلَّة العلَّة، حيث سمّوا الرمي
سبباً للقتل من جهة: أنه سبب للعلَّة، فَكان على التحقيق عِلَّة
العلَّة، لأنه علَّة للإصابة، والإصابةَ عِلَّة لزهوق النفس، ولكن لما
حصل الموت بالإصابة التوسطة بين الرمي والزهوق لا بالرمي كان
الرمي شبيهاً بالسبب في وضع اللسان وهو: ما كان مفضياً إلى
الشيء وطريقاً إليه فسمَّوه سبباً لذلك.