فالنياحة هي تعديد الأحوال كالمراثى لتتوقد نار المصيبة، وحرقات الرأفة، وتقوى الفجيعة. فذلك من السخط والتلهف على الفائت المفقود. وكانوا يحتشدون لذلك، ويتخذون عليه الطعام، وتتبع نساؤهم الميت إلى المدفن بهذه الصفات، ويقعدون محتشدين متعاونين على إقامة هذا الرسم أياما وشهوراً جزعين ساخطين، ويزورون القبور فيظهرون من الجزع أكثر مما في باطنهم بنفورهم عن كل نعمة وموضع سرور، كهيئة المقهور المتكلم المتشكى ممن قهرة وظلمه.
فهذه كلها أحوال المشركين في مصائبهم..
فلما ابتعث الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام، أمرهم بالصبر والنزول على حكمه، وأكرم الأمة ببعثه، وبشرهم، وبين لهم الثواب في الأجل - وزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة، وعن كل ما أشبه النياحة، وكل سبب من أسبابها؛ حتى نهى عن البكاء؛ فقال في شأن ميت مات بحضرته: (إذا وجب فلا تبكين باكية) . أراد بذلك حسم هذا الباب على المسلمين لحداثة عهدهم بأمر الجاهلية، حتى بلغ من حسمه أن نهاهم عن زيارة القبور.
فكذلك كل أمر حرمه الله، وكان لذلك الأمر أسباب، حرم تلك الأسباب الداعية إلى ذلك الأمر، منها تحريم الخمر؛ فلما حرمت الخمر زجر