وليُعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تُعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة، وهذا متيسر لا مانع منه، لكن قال العلماء: يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ومصالحة الأعداء، والصدقة، وصيام ثلاثة أيام، ويخرجون في اليوم الرابع صياماً، وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط، ولو تُرك صح الاستسقاء، ومع هذا فهو هيّن بحمد الله تعالى لا كلفة فيه، فإن معناه أن ولي المر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك، وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين، بل هو يأمرهم به، فمن وفِّق له فهو نعمة من الله تعالى عليه، ومن حرمه فلا يضر إلا نفسه، ويُرجى للمسلمين الرحمة والخير بامتثال الموفّقين.
وما يخلو هذا الأمر من مصالح كثيرة، من صلاة وصيام وصدقة، وذكر وتوبة، وقلاع عن معاص، وإقبال على الطاعات، لا سيّما وقد منّ الله تعالى " وله الحمد والنعمة " على المسلمين بما وُفِّق له السلطان، زاده الله فضلاً وخيراً، وتمكيناً وعلوّاً ونصراً، وأدامه ظاهراً على أعداء الدين وسائر المخالفين، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكرات، مبطلاً للحوادث، مُظهراً للمحاسن والخيرات، بما فعله من إزالة هذا المنكر العظيم، الفاحش الجسيم، الذي لم يُسبق إلى إزالته: (وليَنْصُرَنّ الله من ينصره) .
فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير، وهم راجون من فضل الله تعالى مسارعته إلى هذه المصلحة، وقد ضاق الوقت عن تأخيرها، وهذه المصلحة لا تحصل بفعل آحاد الناس، بل باجتماع الناس كلهم، وفيهم العلماء والصالحون، والصغار والضعفاء، والمساكين والمضطرون، وقد ثبت في الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " والله يوفق الأمير لكل مكرمة، ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ومصالح المسلمين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذي اصطفى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولما وصلت الرسالة لولّي الأمر " وفّقه الله تعالى " أمر محتسب البلد فنادى ساعته في الناس بصيام ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين، الثاني عشر من جمادى الأولى المذكور، وبالصدقة والمعروف ومصالحة الأعداء، وغير ذلك مما هو من آداب الاستسقاء. ثم خرج ولّي والناس يوم الخميس، الخامس عشر من الشهر المذكور، واستسقوا، ثم سقوا بعد ذلك بتسعة أيام سقيا عامة، وترادفت أمطار كثيرة، بعد أن حصل لكثير من الناس قنوط. فلله الحمد على نعمه والتوفيق لإظهار شعائر دينه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتناء بسنّته، ومسارعة المسلمين إليها.
وكتب وليّ الأمر إلى نوابه في البلدان يأمرهم بالاستسقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق، فامتثلوا أمره في ذلك، فسقوا كلهم في بلدانهم في الوقت المذكور، ثم وقعت في البلدان ثلوج كثيرة لم ير في تلك السنين مثلها، وأبطل تضمين الخانات والخمور، وأريقت على كل من وجدت عنده، في دمشق وسائر بلاد الشام، ورفعت المنكرات " ولله الحمد " رفعا تاما، بعد أن كانت شائعة أفحش الشياع وذلك في ربيع الآخر من السنة، ثم جعل الله الكريم في الغلات أنواع البركات، وأخصبت الغلات في جميع بلاد الشام إلى حد لم يعهد مثله من نحو ثلاثين سنة. ثم أعقب ذلك رخص " لكثرة الغلات " لم يعهد مثله من نحو خمس عشر سنة، حتى بيعت غرارة القمح بثلاثين درهما وبأربعين وما بينهما، والشعير بأربعة عشر درهماً، وقلت رغبة الناس في الغلات، لكثرتها، والله الحمد والمنة.
وهذا كله لفظ الشيخ، وأردفه بفضل في صفة الاستسقاء وآدابه، وقرأ جميع ذلك عليه تلميذه ابن العطار، في يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وستمائة بالرواحية بدمشق، ثم حدّث بن البرهان أبو إسحاق إبراهيم بن الضياء أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري، عن العلاء ابن العطار، إجازة إن لم يكن سماعا، وأنبأني به العز أبو محمد الحنفي، عن أبي إسحاق المذكور انتهى.
وكان بدمشق شخص يقال له ابن النجار، سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ ومعه جماعة من العلماء حتى أزالوها، فغضب ابن النجار، وراسل الشيخ يتهدده ويقول له: أنت الذي حركت العلماء لهذا، فكتب إليه الشيخ ما نصه: