ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تُنهي إليه الأمور على وجهها، فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلاتهم، فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء، وقد نُهبت كتبهم.
وإذا رفق السلطان بهم، حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أرفق بأمته، ويُظهره على أعدائه، فقد قال الله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم) ، وتتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويُبَارَك له في جميع ما يقصده من الخيرات، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "، فنسل الله الكريم أن يوفق السلطان للسن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة.
فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
قلت: وكان السبب في هذه الحوطة " كما صرح به صاحب " البدر السافر " " أن السلطان الظاهر بيبرس، لما ورد دمشق بعد قتال التتار ونزوحهم عن البلاد، ولّى وكالة بيت المال شخصاً من الحنفية، فقال: إن هذه الأملاك التي بدمشق، كان التتار قد استولوا عليها، فتملكوها على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فوضع السلطان يده عليها، فقام جماعة من أهل العلم في ذلك، وكان الشيخ منهم. قلت: بل هو أعظمهم. قال: فكلم السلطان في ذلك كلاماً فيه غلظة، فظن السلطان أن له مناصب يعز له عنها، فقيل له حاله، انتهى كلام البدر.
وقال القطب اليونيني: إنه واقَف الظاهر غير مرة بدار العدل، بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك. وحكي عن الظاهر أنه قال: أنا أفزع منه، " أو ما هذا معناه "، ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر، وبالغ معه وأغلظ له، فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه " ولعله يقصد الخوف على الشيخ "، فما تأثر الشيخ في ذلك في ذات الله عزّ وجلّ، ولا رجع عن قصده لنفع يجلبه إلى بعض المسلمين، فقد كانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى.
وقال العماد ابن كثير: إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أرادوا وضع الأملاك على بساتينها، فردّ عليهم ذلك، ووقى الله شرّها، بعد أن غضب السلطان وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظّمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه، انتهى كلام ابن كثير.
والظاهر المشار إليه هو: ركن الدين أبو الفتوح بيبرس، البندقداري، الصالحي، النجمي، الأيوبي، التركي، صاحب مصر والشام، الذي أفرد سيرته ابن عبد الظاهر، وابن شدّاد، ومات بدمشق قبل الشيخ بيسير، في العشر الأخير من المحرم من السنة التي مات الشيخ فيها.
وأما خضر فهو: ابن أبي بكر بن موسى المِهْراني العدوي، أحد من كان الظاهر المذكور يعتقده لكونه كان أخبر بتملّكه قبل وقوعه، حتى كان يتردد لزيارته في الأسبوع مرة ومرتين وأكثر، ولا يخرج عن ريه، وبنى له عدة زوايا وأماكن، منها الزاوية التي بالقرب من الجامع الظاهر من الحسينية، وبها محل دفنه، ثم تغيّر عليه لكثرة ما رُمي به عنده من الفواحش، واستشار في أمره، فأشار بعض خواصه من الأمراء بقتله، فقال خضر مخاطباً للسلطان: اسمع ما أقول لك: إن أجلي قريب من أجلك، بيننا أيام يسيرة، فوجم السلطان من ذلك وعدل عن قتله، ثم حبس بمكان مُعدٌّ له بالقلعة، لم يمكّن من الدخول عليه إلا من يثق به غاية الوثوق، مع التوسعة عليه بالأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، حتى مات بالقاهرة في يوم الخميس سادس المحرم المذكور، ولما ورد البريد على السلطان بموته صرخ وقال: مات! ثم انتقل من مكانه إلى غيره، ولم يستكمل قراءة البريد، بل ولا قرئ عليه شيء " كأنه خوفاً من قوله الذي أسلفه "، فكان كذلك، لم يلبث أن مات " كما تقدم " بدمشق، في العشر الأخير من الشهر المذكور.