ولقد حُكي عنه رحمه الله: أنه همّ قبل وفاته بقليل بغسل " الروضة " كما غسل نحو ألف كراسة من تعليقاته، فقيل له: قد سارت بها الركبان، فقال: في نفسي منها أشياء، أو كما قال.
ولم يتفق له مراجعتها وتحريرها، بل هجمت عليه المنية قبل إدراك الخمسين، فرضي الله عنه وعن جميع عباده الصالحين، فإنه من أمّن الأصحاب عليه في سلوك المذهب، فمن كتبه تفقهت، وبكلامه تبصرت، وفي منهاجه سلكت، وبدعائه انتفعت، وذلك أنه كان قد حصل لي فترة عن الطلب في حدود الثلاثين وسبعمائة، مدة مديدة، فرأيت كأني أسير على غير جادة، ثم حانت مني التفاتة إلى جهة القبلة، فإذا خلق كثير مشاة، عليهم ثياب بيض نقية، فوقع لي أنه الشيخ وأتباعه، فنزلت من دابتي ومشيت معهم على الجادة نحو دمشق، فما هو إلا ونحن بميدان الحصى، وإذ بشخص من أقاربي قد تلقاني فسلّم عليّ، وأطال وقوفه معي، فالتفتّ فلم أرى منهم أحداً، فلمته، وجعلت أقفو آثارهم، وأسال عن سبيلهم فأرشد إليه، حتى صرت بين البساتين التي بين المدينة والصالحية، وإذا بكثير من ذلك الجمع منقطعين في الطرقات، فمن جالس مسند ظهره إلى جدار، ومن ماد ساقيه من الإعياء، ومن مضطجع ومستلق يئن كالمريض، فجعلت أدوس ثياب بعضهم أو شيء من بدنهم من شدة الإسراع، إلى أن بلغت المدرسة الشِّبلية الحنفية المشهورة، وإذا بالشيخ ومعه رجلان فقط فلما قربت منهم التفت فرآني، فالتمست منه الدعاء وأقسمت عليه، فتبسم وسعى وحده نحوي خطوات، ثم أخذ في الدعاء لي، فالتفت فإذا والدي رحمه الله واقف يؤمِّن على دعائه، ثم انصرف إلى صاحبيه ومضوا، فاستيقظت مسروراً وراجعت طلب المذهب، ثم ظهر لي أثر الرؤيا صبيحتها كفلق الصبح، وذلك أن القريب الذي أوقفني عنهم تقرّب إليّ بعد الرؤيا بأيام، واجتهد في صحبتي وملازمتي، بحيث لا يفارقني في أغلب الأوقات، ويحول بيني وبين الطلب، إلى أن درج إلى رحمة الله فتماثل الحال، وكانت تلك الوقفة معه في المنام ما ذكرته، فرحمه الله وإيانا، ثم إني أكببت على تحصيل مؤلفات الشيخ والنظر فيها، فرأيت من قضاء حقه أن أنبِّئ على ما يتفق لي العثور عليه في " روضته " وغيرها.
وكذا أثنى على " الروضة "، بل وعلى سائر تصانيفه، التاج السبكي، حيث قال فيه " طبقاته الكبرى " ما نصه: " لا يخفى على ذي بصيرة أن الله تعالى بالنووي عناية وبمصنفاته "، واستدل على ذلك بما يقع في ضمنه من فوائد، حتى لا تخلو ترجمته عن فوائد. فأقول: ربما غيَّر لفظ من ألفاظ الرافعي، إذا تأمله المتأمِّل استدركه عليه وقال: لم يف بالاختصار ولا جاء بالمراد، ثم يجده عند التنقيب قد وافق الصواب، ونطق بفصل الخطاب وما يكون من ذلك عن قصد منه لا يعجب منه، فإن المختصر ربما غيّر الكلام من يختصر كلامه من مثل ذلك، وإنما العجب من مغيَّر يشهد العقل بأنه لم يقصد إليه، ثم وقع منه على الصواب، وله أمثلة منها: قال الرافعي في " كتاب الشهادات " في " فصل التوبة عن المعاصي الفعلية " في التائب: إنه يختبر مدة يغلب على الظن فيها إنه أصلح عمله وسريرته، وأنه صادق في توبته، وهل تتقدّر تلك المدة؟ قال قائلون: لا، إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقة، ويختلف الأمر فيه بالأشخاص وأمارات الصدق، هذا ما اختاره الإمام والعبادي، وإليه أشار صاحب الكتاب بقوله: حتى يستبرئ مدة فيعلم.. إلى آخره، وذهب آخرون إلى تقديرها، وفيه وجهان، قال أكثرهم: يستبرئ سنة، انتهى بلفظه.
فإذا تأملت قوله: قال أكثرهم، وجدت الضمير في مستحق العود على الآخرين الذاهبين إلى تقديرها، لا إلى مطلق الأصحاب، فلا يلزم أن يكون أكثر الأصحاب على التقدير، فضلاً عن التقدير سنة، بل المقدّر بعضهم، واختلف المقدّرون في المدة وأكثرهم على أنها سنة، فهذا ما يعطيه لفظ الرافعي في " الشرح الكبير ". وصرح النووي في " الروضة " بأن الأكثرين على تقدير المدة سنة. فمن عارض بينها وبين الرافعي متأملاً قضي بمخالفتها له، لأن عبارة " الشرح " لا تقتضي أن أكثر الأصحاب على التقدير وأنه سنة، بل أن أكثر المقدرين الذين هم من الأصحاب على ذلك ثم يتأيد هذا القاضي بالمخالفة بأن عبارة الشافعي رضي الله عنه ليس فيها قدير بسنة ولا بستة أشهر، وإنما قال: أشهراً، وطلق الأشهر رضي الله عنه إطلاقاً.