وقوتهم، وكراهة للتعمق في الدين، وتكلف ما لم يكلف، وخشية أن يفرض فيعجزوا عنها وقول الرجل "إنك تواصل يا رسول الله" لا ينافي الأدب، لأنه لم يكن على سبيل الاعتراض، ولكن على سبيل استخراج الحكم أو الحكمة أو بيان التخصيص. وقد اختلفوا في المعنى المراد من قوله "يطعمني ويسقيني" فقيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه. وتعقبه ابن بطال بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا. وقيل: يخلق الله فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، ورد أيضا بالنظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، وبأنه لو خلق فيه الشبع والري لما وجد روح عبادة الصوم، وهو الجوع والمشقة وحينئذ يكون ترك الوصال أولى.

وقيل: يحفظ الله عليه قوته من غير طعام ولا شراب كما يحفظها بالطعام والشراب، ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف ولا كلال، فعبر بالطعام والسقيا عن فائدتهما، وهي القوة، وهذا قول الجمهور والفرق بينه وبين ما قبله أن ما قبله يعطى القوة مع الشبع والري، وهذا يعطى القوة من غير شبع ولا ري، بل مع الجوع والظمأ، وقال ابن المنير ما حاصله، إن استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة، واستغراقه في مناجاة ربه يجعله بحيث لا تؤثر فيه الأحوال البشرية من الجوع والعطش، فقد يستغني الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني، وهذا مشاهد، يحس به من زاد سروره باشتغاله بمحبوبه، فإنه ينسى الطعام والشراب والجوع والعطش، وهذا رأي حسن نحا نحوه العلامة ابن القيم، ولم يكن امتناع الصحابة ناشئا عن مخالفتهم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان لفهمهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا النهي للتنزيه، ولرغبتهم في التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم وإنما واصل بهم صلى الله عليه وسلم بعد نهيه تقريعا وتنكيلا لا تقريرا.

وكانت تلك المواصلة في مصلحة النهي لا ضده، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمته، وكان ذلك أدعى إلى اطمئنان قلوبهم، لما سيؤدي إليه الوصال من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم من وظائف الصلاة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015