قيل: إنما ذكر في معارضهم في النار أن الواحد من الأنس يقول للشيطان الذي كان في الدنيا قرينه أنه المغاوي وأضلني. فيقول له قرينه: ما أطغيته، ولكن كان ضالا في نفسه غويا، وهذا تخاصم يدعو إليه طاعة الإنس لقرنائهم من الجن وهم الشياطين في الدنيا، ولا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة منها إلى التفاوض، فلذلك سلب عنهما.
وأيضا فإن الله جل ثناؤه، أخبر الناس إن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد والعصيان. وليس في إجبار الأخيار باجتماع الجن معهم في الجنة ما يحرضهم على الازدياد من الطاعات ولاستكثار من الخيرات، إذ لا معنى فيهم يسوق الإنس إليهم ويحثهم على مجاورتهم. فيحتمل أن يكون ذكرهم مع الإنس في الوعيد، والسكت عن ذلك في الوعد لهذا، والله أعلم.
ووجه آخر: وهو أن السكت عن ذكر الجن وإدخالهم الجنة يحتمل، لأنهم لا يخالطون الإنس فيها، ولا يجاورنهم مجارة الإنس بعضهم بعضا، ولكنهم مع الإنس في الجنة كما يكونون معم في الأرض، لا يرى هذا ذاك، ولا ذاك هذا ولعل ذلك لا يجاوز الأشكال أنس ويجاوز الأضداد وحشة، والجن أضداد الإنس. فإن الجن مخلوقون من النار، والإنس مخلوقون من الماء والتراب. والماء ضد النار، وفي التراب أيضا بعض المضاد لأنه يطفئ النار كما تطفئها الماء.
فالتضاد بين الفريقين في أصل الجملة، ولأن الجن في الدنيا إنما كانوا يعيشون بروائح الأطعمة دون أجسادها، فلذلك في الجنة يتنعمون بنسيم الجنة وطيب روائحها، وروائح الأطعمة والأشربة التي تكون فيها، فتكفيهم من المكان في الجنة مثل ما كان يكفيهم منه في الدنيا، فيكونون لاختبائهم عن الأبصار كالمعدومين، فتشبه أن يكون أفرادهم بالذكر بما لم يقع لهذين المعننين أو لأحدهما والله أعلم.
فأما الذين يوردون النار من الجن، قد يجوز أن يكونوا أيضا غير مرئيين للأنس، ولا تطهر لهم فيرونهم، {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}. فكذلك أهل النار من الفريقين، وإن تخاصموا فذلك لا يقتضي أن يرى بعضهم بعضا، والله أعلم.