فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة، أو الضيقة، تخيل أنها شيء له سعة فشبهت الأرض الرحبة بها كما في البيت، ومن هذا القبيل قول أبي طارق الرقى:

ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1

يصف الشاعر نفسه بالوفاء، وأنه لا ينسى حبيبه، حتى في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، ووجه الشبه بين الطرفين هو السواد -غير أنه متخيل المشبه به كالذي قبله وذلك لشيوع وصف أوقات المكاره بالسواد توسعا: فقالوا أسود النهار في عيني، وأظلمت الدنيا في وجهي- حتى تخيل أن يوم النوى من الأشياء ذوات اللون الأسود، فشبه الظلام به، كما شبه بفؤاد من لم يعشق تظرفا، فإن الغزل يدعى قسوة من لم يعشق- ولهذا يقولون: ويل للشجى من الخلى، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا. ومنه أيضا قول الشاعر:

يا من له شعر كحظئ أسود ... جسمي نحيل من فراقك أصفر

فوجه الشبه بين الشعر والحظ هو السواد، وليس موجودا في المشبه به حقيقة بل تخيلا كما ترى- فإذا قيل في البيت المذكور: "يا من له حظ كحظي أسود" كان مثالا لما يكون فيه الوجه متخيلا في الطرفين.

هذا: وقد تقدم أن تشبيه المحسوس بالمعقول لا يجوز إلا إذا تخيلنا المعقول محسوسا، وافترضناه أصلا في وجه الشبه، يقاس به المشبه مبالغة، وإذن فلا بد هنا أن نتخيل غير المتلون أصلا للمتلون الحقيقي، فنتخيل "السنن" في بيت التنوخي أصلا في البياض، والبدع أصلا في السواد حتى يصح القياس- كما نتخيل في بيت أبي طارق كلا من "يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق، أصلا في السواد كذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015