وإذا تأملت هذا الموضع، وجدت كثيراً من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوالٍ متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف، مع قيام الأدلة الظاهرة على خلاف تلك الأقوال، وعذرهم - رضي الله عنهم-: أنهم لم يكن لأحد منهم أن يبتدئ قولاً لم يعلم به قائلاً، مع علمه أن الناس قد قالوا خلافه، فيتركب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل، وها هنا انقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام:
فقسم: أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم وقالوا: لا يجوز أن نخالفهم، ونقول قولاً لم نسبق إليه؛ وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم.
وقسم: توقفوا وعلقوا القول فقالوا: إن كان في المسألة إجماع، فهو أحق ما اتبع، وإلا فالقول فيها كيت وكيت، وهو موجب الدليل، ولو علم هؤلاء قائلاً به، لصرحوا بموافقته، فإذا علم به قائل، فالذي ينبغي ولا يجوزه غيره: أن يضاف ذلك القول إليهم، لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه يضاف لا قائل به، وأنه لو كان قائل، لصاروا إليه، فإذا ظهر به قائل، لم يجز أن يضاف إليهم غيره إلا على الوجه المذكور، وهذه الطريقة أسلم.
وقسم ثالث: اتبعوا موجب الدليل، وصاروا إليه، ولم يقدموا عليه قول من ليس قوله حجة، ثم انقسم هؤلاء إلى قسمين:
فطائفة: علمت أنه يستحيل أن تجمع الأمة على خلاف هذا الدليل، وعلمت أنه لابد أن يكون في الأمة من يقول بموجبه وإن لم يبلغهم قوله، فما كل ما قاله كل واحد من أهل العلم وصل إلى كل واحد من المجتهدين، وهذا لا يدعيه عاقل، ولا يدعى في أحد..
وطائفة قالوا: يجوز أن لا يتقدم به قائل، ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذا لعل تلك النازلة تكون قد نزلت، فأفتى فيها بعض