والسنة وإجماع الأمة قبل ظهور مجوسها القدرية النفاة، وهم مع ذلك يقولون: إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، تضاف إليهم، ويجازون عليها بالعدل والإحسان، وهذا لا ينافي أن يكون الله خالقاً لأفعالهم، فإن أفعال العباد تضاف إلي الله خلقاً وتكويناً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة، وفرق بين مخلوق الله، وبين فعله، فأفعالهم مخلوقة بائنه عنه، لا تنسب إليه على أنها فعله، وهي فعل العباد الموصوفين بها حقيقة، فهي من صفاتهم العائد حكمها إليهم، والعقلاء كلهم يعلمون أن فعل الفاعل ناشئ عن قدرته وإرادته الجازمة، لا يتخلف عنها ألبته، ولا يمكن وجوده مع عدمه أو عدم إحداهما، والله تعالى هو الذي خلق الآدمي بما فيه من قدرة وإرادة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، فالرب جعل إرادة العبد وقدرته سبباً لإيجاد فعله، بمنزلة إحراق النار لما وقع فيها مما يقبل الاحتراق؛ فإن إحراق النار يضاف إليها على وجه المباشرة، ويضاف إلى من أوقدها على أنه هو فاعل السبب.
قال ابن القيم: رحمه الله- في ((شفاء العليل)) (ص130) ، بعد أن أطال - رحمه الله- في الكلام على الكسب والجبر: ((فالطوائف كلها متفقة على الكسب، ومختلفون في حقيقته:
فالقدرية قالوا: هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالاً، وليس للرب فيه صنع ولا هو خالق فعله، ولا مكونه، ولا مريداً له.
وقال الجبرية: اقتران الفعل بالقدرة الحادثة، من غير أن يكون لها فيه أثر.
ثم ذكر أن الأشعري في عامة كتبه، فسر الكسب بأن يكون الفعل بقدرة محدثة، فمن وقع الفعل منه بقدرة محدثة فهو مكتسب، ومن وقع منه بقدرة قديمة فهو فاعل خالق.