(ص) : (مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ خَشَبَةً يَغْرِزُهَا فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» )
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَحْصِيلُ الْمَنَافِعِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاطِّلَاعِ وَالنَّظَرِ كَمَا لَوْ اطَّلَعَ عَلَى سَقْفِهِ لِإِصْلَاحِهِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا الْعَامُّ فَمِثْلُ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَأَمَّا إخْرَاجُ الْعَسَاكِرِ وَالْأَجْنِحَةِ عَلَى الْحِيطَانِ إلَى طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاشْتَرَى مَالِكٌ دَارًا لَهَا عَسْكَرٌ فَقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَنَاحًا بِأَسْفَلِ الْجِدَارِ حَيْثُ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ يَحْتَازُهَا لَا مَضَرَّةَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا تَضْيِيقَ لِفِنَائِهِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ كَضَوْءِ السِّرَاجِ وَظِلِّ الْحَائِطِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ بَنَى بُنْيَانًا يُطِلُّ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مَنْ بَنَى عَلَى شَرَفٍ يُطِلُّ مِنْهُ عَلَى مَوْرِدَةِ الْقَرْيَةِ عَلَى قَدْرِ غَلْوَةٍ، أَوْ غَلْوَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِإِشْرَافِ مَكَانِهِ فَقَطْ لَمْ يُمْنَعْ، وَإِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً، وَكَذَلِكَ إنْ أَطَلَّ مِنْ ذَلِكَ الشَّرَفِ عَلَى دُورِ جِيرَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ إذَا كَانَ ذَلِكَ حَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ اطِّلَاعُهُ عَلَى الْمَوْرِدَةِ يُعْلِيه فَتْحُ بَابِهَا إلَى الْمَوْرِدَةِ، أَوْ كُوًى مُنِعَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ خَلْقِ الْبَارِي تَعَالَى وَحَالَ بُقْعَةِ الْأَرْضِ لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ تَقَادَمَ وَاسْتَحَقَّ، وَإِنَّمَا يُغَيَّرُ الْمُحْدَثُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالضَّرَرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُحْدَثٌ وَقَدِيمٌ فَأَمَّا الْمُحْدَثُ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ، وَأَمَّا الْقَدِيمُ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ فِي قَنَاةٍ قَدِيمَةٍ فِي حَائِطِ رَجُلٍ لَا يُغَيِّرُ الْقَدِيمَ وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَفْرَانِ تُوقَدُ لَلْفُخَّارِينَ بَيْنَ دُورِ قَوْمٍ رُبَّمَا شَكَا جِيرَانُهَا دُخَانَهَا أَنَّ الْقَدِيمَ مِنْهَا لَا يَعْرِضُ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ مَنْ كَانَتْ لَهُ كُوَّةٌ قَدِيمَةٌ يَضُرُّ بِجَارِهِ لَا أَمْنَعُهُ مِنْ الْقَدِيمِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى نَصٍّ غَيْرِ مَا ذُكِرَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي تِبْنِ الْأَنْدَرِ فَإِنَّهُمَا مُنِعَا مِنْهُ وَيَلْزَمُهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقَنَاةِ الْقَدِيمَةِ فِي الْحَائِطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(ش) : «نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ» رَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ وَلَا يُقْضَى بِهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْمُطَّلِبِ يَقْضِي بِهِ عِنْدَنَا وَمَا أَرَاهُ إلَّا دَلَالَةً عَلَى الْمَعْرُوفِ وَإِنَّنِي مِنْهُ فِي شَكٍّ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ هُوَ أَمْرٌ رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَا يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ الْوُجُوبُ وَلَكِنَّهُ يَعْدِلُ عَنْهُ بِالدَّلِيلِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْجِدَارِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ الْجِدَارَ مِلْكٌ مَوْضُوعُهُ الْمُشَاحَّةُ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنَافِعَهُ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَلِبَاسِ ثَوْبِهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَصِلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ لَكِنَّهُ كَانَ يُوَبِّخُ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِجَارِهِ وَيَشُحُّ بِحَقِّهِ فَكَانَ يَجْرِي إلَى تَوْبِيخِهِ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ بِمَا نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إعْرَاضُ مَنْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى النَّدْبِ وَيَعْرِضُونَ عَنْ حَمْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ الْوُجُوبِ، وَإِنْ أَخَذُوا بِهِ بِخَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ وَأَبَاحُوا ذَلِكَ لِمَنْ جَاوَرَهُمْ رَغْبَةً فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُبَادَرَةً إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ عَلِمُوا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ وَيَعِيبُ مَنْ يَتْرُكُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ فَيُعْرِضُونَ عَمَّا يَدْعُوهُمْ