المقفي الكبير (صفحة 480)

فقال أحمد: قد كان يبلغني غير هذا. أمّا هذا فلا أنكر منه شيئا.

زاد في رواية أخرى أنّ الحارث لمّا أخذ في الكلام بقي أصحابه يسمعون كأنّما على رءوسهم الطير فمنهم من يبكي ومنهم من ينتحب (قال) فجئت إلى الحارث وقد غشي عليه، فتركته ثمّ عدت إليهم، ولم يزل هذا حالهم في القراءة والذكر إلى آخر الليل، فلمّا صلّوا وذهبوا جئت إلى أحمد بن حنبل فقال: ما أعلم أنّي رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل- أو كما قال- اه.

فإن قلت: قد نقل فقهاء الحنابلة في كتبهم أنّ الإمام أحمد تكلّم في الحارث المحاسبيّ وأنّه قيل له: يا أبا عبد الله، يروي الحديث وهو ساكن خاشع فغضب الإمام أحمد وجعل يحكي ولا يعدّل خشوعه ولينه ويقول: لا يغترّ فإنّه رجل سوء لا يعرفه إلّا من خبره، ولا كرامة له، قلت: هذا الكلام من الإمام أحمد محمول على أنّه كان في أوّل أمره بحسب ما بلغه عنه، ولمّا سمع كلامه بغير واسطة بينه وبينه تحقّق حاله وظهر له مقامه وعلوّ شأنه، ويدلّ على ذلك قول الإمام أحمد: قد كان يبلغني غير هذا إلى آخره.

وقال (?) في ترجمة سريّ السقطي (?) رضي الله عنه: حكى الراغب وغيره أنّ سريّا السقطي لمّا ترك التجارة كانت أخته تنفق عليه من غزلها، فأبطأت عليه يوما فسألها عن ذلك فقالت: إنّ غزلي لم يشتر لأنّه مختلف بعضه أرفع من بعض.

فامتنع السريّ من طعامها لذلك وعزم أن لا يأكل ممّا عندها بعد ذلك. ثمّ إنّ أخته دخلت عليه بعد

ذلك فرأت عنده عجوزا تكنس بيته، وكانت تلك العجوز تأتيه كلّ يوم برغيفين، فاغتمّت أخته وراحت إلى الإمام أحمد بن حنبل فذكرت له ذلك. فلمّا كلّمه أحمد في ذلك قال السريّ: هذه الدنيا أمرها الله عزّ وجلّ أن تخدمني وتأتي إليّ بقوتي، أو كما قال.

وكان رضي الله عنه يتأسف على اجتماعه بالإمام مالك لأنّ مالكا رضي الله عنه توفّي في السنة (?) التي طلب الإمام أحمد فيها الحديث وهي سنة تسع وسبعين ومائة، فكان يقول: فاتني مالك فأخلف الله عليّ سفيان بن عيينة، وفاتني حمّاد بن زيد فأخلف الله عليّ إسماعيل بن عليّة.

واجتمع بالشافعيّ رضي الله عنه وأخذ عنه الفقه وأصوله وكان رضي الله عنه يقول: ما حمل أحد محبرة ولا مسّ قلما إلّا وللشافعيّ في عنقه منّة.

ولمّا ذكر الشيخ محيي الدين النّوويّ هذا الكلام عن الإمام أحمد قال بعده: فهذا قول إمام أصحاب الحديث وأهله ومن لا يختلف الناس في ورعه وفضله.

ثمّ قال النوويّ: ومن كلماته- يعني الإمام أحمد- أنّ الشافعيّ مكّنه الله تعالى من أنواع العلوم حتّى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون (?) اه.

وقال الإمام أحمد: ما صلّيت صلاة منذ ثلاثين سنة إلّا وأنا أدعو للشافعيّ- كذا في الحلية للحافظ أبي نعيم، وقال الإمام الغزالي في الإحياء: أربعين سنة- ولكثرة دعائه له قال له ابنه: أيّ رجل كان الشافعيّ حتّى تدعو له كلّ هذا الدعاء؟ فقال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015