فجهّزه إليه وسار إلى دمشق فقدمها في [17 ب] يوم الأحد ثاني عشرين صفر سنة ستّين. وخرج منها في يوم الخميس سادس عشر منه فوصل إلى القاهرة في سابع عشرين ربيع الأوّل فأنزله الملك الظاهر ركن الدّين بيبرس البندقاري في البرج الكبير داخل باب القلّة من قلعة الجبل.
فلمّا كان يوم الخميس ثاني المحرّم سنة إحدى وستّين وستّمائة جلس السلطان مجلسا عامّا جمع فيه أهل الدولة والأعيان والتتار الوافدين من العراق والرسل الذين عيّنهم للتوجّه إلى الملك بركة واستدعى بالحاكم بأمر الله فحضر وهو راكب إلى الإيوان ونزل إلى مرتبة بجانب السلطان قد فرشت فجلس عليها. وقرأ القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر نسبه بعد ما عمل شجرة النسب على قاضي القضاة تاج الدّين عبد الوهّاب [ابن بنت الأعزّ] وشهد به عنده. فلمّا أثبته مدّ يده وبايعه السلطان على العمل بكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أعداء الله وأخذ أموال الله بحقّها وصرفها في مستحقّها، والوفاء بالعهود، وإقامة الحدود، وما يجب على الأئمّة فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين.
ولقّبه بالحاكم بأمر الله فأقبل بعيد ذلك [20 أ] وقلّد السلطان أمور البلاد والعباد، ووكّل إليه تدبير الخلق وجعله قسيمه في القيام بالحقّ، وفوّض إليه سائر الأمور وعقد (?) به صلاح الجمهور.
ثمّ أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في مبايعته فلم يبق ملك ولا أمير، ولا وزير ولا قاض ولا مشير، ولا جنديّ ولا فقيه إلّا وبايعه.
فلمّا كان يوم الجمعة ثانيه اجتمع الناس وحضر الرسل الذين جهّزوا إلى الملك بركة، وحضر
الأعيان لسماع خطبة الخليفة بجامع القلعة، فخرج وعليه سواده، ورقي المنبر وخطب [ ... ] وكانت خطبته:
الحمد لله الذي أقام لآل العبّاس ركنا وظهيرا، وجعل لهم من [ ... ] سلطانا نصيرا، أحمده على السرّاء والضرّاء، واستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمّة الاقتداء، الأربعة الخلفاء، وعلى العبّاس عمّه وكاشف غمّه أبي السادة الخلفاء الراشدين والأئمّة المهديّين، وعلى بقيّة الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيّها الناس، اعلموا أنّ الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام ولا يقوم على الجهاد إلّا باجتماع كلمة العباد، ولا سبّت الحرم إلّا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلّا بارتكاب المآثم. فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأبطال والأطفال، وهتكوا حرم الخليفة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فاتّفقت الأصوات بالبكاء والعويل، وعلت الضجّات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضّبت شيبته بدمائه، وكم [من] طفل بكى فلم يرحم لبكائه. فشمّروا عن ساق الإجهاد في إحياء فرض الجهاد، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (?). فلم يبق معذرة عن القعود عن أعداء الدّين والمحاماة عن المسلمين.