الخطاب لما صح أن يؤخر الحج إلى عام آخر وإن علم أنه يعيش إلا أن يخصه الله تعالى بذلك دون غيره، وفعله في امتثال أمر الله محمول على البيان لمجمل كتاب الله حتى يعلم أنه مخصوص بذلك. وإلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصا بتأخير الحج ذهب إسماعيل القاضي فقال إن الله لم يأمره بالحج حتى قطع ما أراد أن يقطعه من عهود المشركين ودار الحج إلى الشهر الذي جعل الله فيه الحج وحج فيه أبوه إبراهيم، وهو قول لا دليل عليه. والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخل تحت عموم قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97].
وأما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أخر الحج إلى عام عشر ليوقعه في وقته الذي استدار إليه الزمان وحج فيه الأنبياء قبله إبراهيم وغيره صلوات الله وسلامه عليهم وهو ذو الحجة، فيكون هو الفرض ويثبت فيه الحج إلى يوم القيامة على ما قاله في خطبته، فليس ذلك عندي بصحيح. بل حج أبو بكر في ذي القعدة وهو وقته حينئد شرعا ودينا قبل أن ينسخ النسيء، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية فنسخ ذلك النسيء الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأنزل أيضا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] يريد لا ينقل عنها، فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. ولو كان الحج قد فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في ذلك العام إلا في ذي الحجة، ولأمكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحج في ذلك العام لو شاء فيه الحج. فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك على ما جاء في الحديث، لا ليوقعه في ذي الحجة إذ كان قادرا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة لو كان الحج قد فرض عليه فيه على الفور، فصح الدليل من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الحج على التراخي والله سبحانه وتعالى أعلم.