بأنه لا مزية له على ما سواه من الاجتهاد يرجح بها أحد الأثرين المتعارضين، ويختلف هل يقدم على خبر الواحد أم لا، فحكى ابن القصار عن مالك أن القياس عنده مقدم على خبر الواحد خلافا لأبي حنيفة في تقديمه على القياس والله أعلم.
وإذا اختلف علماء المدينة وغيرهم بعدهم في حكم نازلة فالواجب أن يرجع فيها إلى ما يوجبه الاجتهاد والنظر بالقياس على الأصول، ولا يعتقد أن الصواب في قول واحد منهم دون نظر، وإن كان أعلمهم. ولا اعتراض علينا في هذا بانتحالنا لمذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتصحيحنا له وترجيحنا إياه على ما سواه من المذاهب؛ لأنا لم ننتحل مذهبه في الجملة إلا وقد بانت لنا صحته وعرفنا الأصول التي بناه عليها واعتمد في اجتهاده على الرجوع إليها مع علمنا بمعرفته بأحكام كتاب الله عز وجل من ناسخه ومنسوخه، ومفصله ومجمله، وخاصه وعامه، وسائر أوصافه ومعانيه، وسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبيين صحيحها من سقيمها، وأنه كان إماما في ذلك كله غير مدافع فيه بشهادة علماء وقته له بذلك وإقرارهم بالتقديم له فيه؛ ولأنا اعتقدنا أيضا أنه هو الذي عناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» لوجهين:
أحدهما: أنه هو المسمى بعالم المدينة لتعرفه به، فإذا قال القائل: هذا قول عالم المدينة، أو فقيه المدينة، أو إمام دار الهجرة، علم أنه هو الذي أراد، كما يعلم إذا قال هذا قول الشافعي أنه أراد بذلك محمد بن إدريس الشافعي دون من سواه من أهل نسبه، وكذلك الثوري والأوزاعي.
والثاني: تأويل الأئمة ذلك فيه منهم ابن جريج، وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي من غير خلاف عليهم في ذلك؛ لأن من قال: يحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنى بذلك العمري العابد ليس بصحيح؛ لأن الصفة التي وصفها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن أكباد