من ذلك ما روت عمرة بنت عبد الرحمن عن رافع بن خديج أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدينة خير من مكة». قال: وهذا نص في تفضيل المدينة على مكة، وليس بنص كما زعم إذ لم يقل: إنها أفضل منها وإنما قال: هي خير منها، فيحمل ذلك لما ذكرناه من الأدلة الظاهرة على أن مكة أفضل من المدينة على أنه إنما أراد بقوله: إن المدينة خير من مكة أنها خير منها في سعة الرزق فيها، بكثرة الزرع والثمرات، وتمكن التجارات؛ لأن الله عز وجل أخبر عن مكة أنها بلد غير ذي زرع بقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فمعنى الحديث، والله أعلم، أنه أراد أن ينبه أصحابه المهاجرين على فضل الله عليهم بأن جعل هجرتهم من مكة إلى بلد هو أوسع في الزرع منها ليشكروا الله على ذلك حق شكره.
ومن ذلك دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمكة ومثله معه. وهذا أيضا لا دليل فيه، إذ ليس في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك لأهل المدينة في مدينتهم وصاعهم ومدهم على ما جاء في الحديث المذكور ما يدل على أنها أفضل من مكة بوجه.
ومن ذلك قوله: «اللهم كما أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك». وهذا الحديث ليس على عمومه، ومعناه فأسكني في أحب البقاع إليك بعد مكة، بدليل ما تقدم من أن مكة أفضل من المدينة بالنص الذي ذكرته على ذلك.
ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة». وهذا أيضا لا حجة فيه إذ ليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل من صبر على لأواء المدينة وشدتها في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقام معه لنصرته، والصلاة في مسجده بعد وفاته؛ لما جاء من الفضل في الصلاة في مسجده على سائر المساجد إلا المسجد الحرام ما يدل على فضل المدينة على مكة، لا سيما وقد جاء النص بأن الصلاة في مسجد مكة أفضل من الصلاة في مسجد المدينة بمائة صلاة.