فارقته النفس جهلا إنما ... يعرف الشىء إذا ما يذهب
ولا يعنى ذلك أن إحساسه بالغربة فى مصر كان نتيجة لسوء معاملة أهلها له.
بل العكس صحيح، فقد شعر فيها بالأمن والأمان، وأكرمه حكامها ورجالاتها، وصاحب شعراءها ومفكريها، ووصف استمتاعه بالعيش فيها، ويدل على ذلك الخبر الذى جاء فى النفح عن مطارحته للشعر مع جماعة من أصدقائه من الشعراء المصريين كان من بينهم الشاعر زكى الدين بن أبى الإصبع والشاعر جمال الدين أبو الحسين الجزار ونجم الدين بن اسرائيل «1» كان القرن السابع زاخرا بالعلماء فى كل تخصص، وبالأدباء فى كل فرع.
وكانت هجرة الأندلسيين منهم إلى شمالىّ أفريقية وإلى المشرق موضع ترحاب فى معظم الأحيان من زملائهم فى تلك المناطق. وقيض الله له بعض الاستقرار فى تونس أيام الأمير أبى زكريا يحيى الحفصى رابع حكام الدولة الحفصية فيها، وفى فترات من حكم الدولة الأيوبية فى مصر والشام مما أتاح الوقت لهؤلاء الحكام كى يشجعوا العلماء والأدباء المقيمين والوافدين على تأليف كتبهم ونظم قصائدهم وموشحاتهم، واتسم العصر كما هو معروف بظهور طبقة من مؤلفى الموسوعات الذين صانوا تراث سابقيهم من الضياع حين قاموا بجمعه وتلخيصه وشرحه والترجمة لمؤلفيه. وكان بعض هؤلاء الملوك والحكام من الأدباء والشعراء، وقد أورد لهم ابن سعيد مقتطفات من شعرهم ونثرهم فى كتبه، ومن بينها كتابه «المقتطف» «2» فهذا المستنصر بالله بن أبى زكريا الحفصى يفتح قصره للوافدين على أبيه من الأندلس من بين عالم وشاعر وأديب من أمثال حازم القرطاجنى الشاعر الناقد، وابن الأبّار القضاعى العالم المؤرخ صاحب «الحلة السيراء» والتيفاشى المؤرخ الأديب، وأبى العباس الغسانى لسان الدولة الحفصية وكاتبها ووزيرها وابن سعيد المغربى، وكذلك كان الأمر فى مصر والشام والعراق قبل سقوط بغداد. فقد ظهر