المقابسة التاسعة والأربعون
في أن صورة الحركة واحدة وإن وجدت في مواد كثيرة
قال يحيى بن عدي: الحركة صورة واحدة لكنها توجد في مواد كثيرة ومحال مختلفة، وبحسب ذلك تولى أسماء مختلفة، وقد يظن من أجلها أنها في نفسها ليست واحدة، وأن لها أخوات ونظائر. والبحث الفلسفي قد قرن واحدة بواحدة على ما دل الاسم عليه في الأصل، وذلك أنه يقال: الحكة كون وفساد، ونمو ونقصان، واستحالة وإمكان؛ وإنما تباينت هذه الأسماء لمعان تحققت في النفس بالاعتبار الصحيح. فالحركة في النار لهب، وفي الهواء ريح، وفي الماء موج، وفي الأرض زلزلة. هذا باب كما ترى قد حصل في الاستقصات ولم يغادر منه شيء. ثم إن الحركة بعد ذلك في العين طرف، وفي الحاجب اختلاج، وفي اللسان منطق، وفي النفس بحث، وفي القلب فكر، وفي الإنسان استحالة، وفي الروح تشوف، وفي العقل إضاءة واستضاءة، وفي الطبيعة كون وفساد، وفي العالم بأسرة شوق إلى الذي به نظامه، وبوجوده قوامه، وإليه توجهه، وبه تشبهه، ونحوه تولهه وتدلهه.
ثم قال: وهذا بين الحجة، وكل شاد من الفلسفة شيئاً يسلم بهذه الإشارة ويتوصل بها إلى ما هو من جنسها اقتداء بما يتراءى منها ويشيع عنها. والكلام في الحركة في غاية الشرف لأنه دال على كل ما قد اشتمل العالم عليه من العلويات والسفليات، ولا مانع من تقصيه إلا العجز عن جله، والكسل عن بعضه، وبين هذين ذهاب العلم وضلال الفهم. وهكذا حكم من قلت دواعيه إلى الشيء، وكثرت صوارفه عنه.