اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على أنه حجة يستدل بها على أدوار التهذيب! وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته.
فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم ... إلخ"1، تجده منقولًا نقلًا حرفيًّا في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها القرآن، بسند أحيانًا وبغير سند أحيانًا أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فأخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى أنه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الإجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعًا، وإنما حكمه حكم الأخبار الآحاد.
ثم عن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"2، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما تحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة"3، مما يدل على أنه قصد بـ"تضجع قريش"، عيبًا من العيوب في الفصاحة وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه بـ"ارتفعت قريش في الفصاحة عن...."، كما لا يخفى وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والإملاء عن ظهر قلب في الغالب، لا عن كتاب مدوّن وصحف مكتوبة، فلا غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان