بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم في البيت1، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القبيل، تدل كلها على أن قريشًا كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وأنهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبإشراكهم برأسمال قوافلهم، لتأمين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام. فهل يقال بعد كل هذا: إنه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي، صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام؟ 2 ونحن نعلم، أن من أهم مقومات السيادة السياسية، ضرورة وجود القوة العسكرية، فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الانبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العربية في آسية إلى حدود الصين، وفي أوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، كيف نتصور إذن خضوع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيلة، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئًا مألوفًا، بل هو عنده من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للأعراب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لا يحترم فيه إلا القوي الجبار.
ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيئات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنفوذ السياسي، وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرئ القيس" صاحب نص النمارة، المتوفى سنة "328م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية.
ففي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطان سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسالمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشًا كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، وإلى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستثناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم،