عليها، وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيث" في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رمال تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان أن يجد قوته في هذه القفار الواسعة المغبرة، أو أن يعيش فيها عيشة مستقرة، دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر إلى التنقل والارتحال بحثًا عن الكلأ والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة؛ لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف، فتصير هذه المواطن القليلة هدفًا لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وأيام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحفاظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء، حتى يفنى بطعنة، أو بموت حتف أنفه.
تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالي مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة. إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد أنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة، ثم أنها مياه ضيقة المعين، لا يتسع صدرها لإرواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة، وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلًا جدًّا في كل وقت. وإذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء بالأرضين المجدبة، نجد أنها قلة إلى كثرة، وإن ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وإن مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وإن هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعًا من أن يطأ وجهها خف جمل أو نعل إنسان، أو أن تدوسها الأقدام.
وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لإرواء الإنسان ولإرواء ماشيته وإسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة، التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصادًا بدائيًّا لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد الأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحًا تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.