بل لا بد من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها1. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الاصنام والاغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين2، لأن الحنيفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفًا بقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك4.
وقد لخص "الفخر الرازي" و"الطبرسي"، آراء العلماء في "الحنيفية" وأجملاها في تفسيرهما للآية: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: أحدها أنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها أنها أتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها أنها أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام،