ولهذا صار الرجل الذي تتوفر فيه الصفات التي يجب أن تكون في الحاكم، مرجعًا لأصحاب الخصومات، يرجعون إليه لعمق تفكيره ولرجاحة عقله في استنباط الحكم الذي يرضي ويقنع الطرفين، ولم يكن هذا الحاكم من رؤساء القبيلة بالضرورة، وإنما قد يكون من الذين برزوا في مجتمعهم وأظهروا مقدرة في فهم طبائع قومهم وأعرافهم وأنسابهم وامتازوا عن غيرهم بسعة الفهم والإدراك.
وحكام العرب إما حكام منحوا مواهب ومزايا، جعلت الناس يركنون إليهم في حل المشكلات، وإما كهان، لجأ الناس إليهم يستفتونهم في الحكم فيما يقع بينهم من شجار، لاعتقادهم بصحة أحكامهم، وإما "عراف"، وإما فقهاء ومفتون، أي: رجال دين، كالقلامسة، يفتون في أمور الدين.
ويلاحظ أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الذي ينظر في الخصومات "الحكم" و"الحاكم". أما في الإسلام قد تغلبت لفظة "القاضي" عليه. وصار القاضي هو الذي يقضي بين الناس في جميع الأمور القضائية من مدنية وجزائية، ثم عاد الناس في هذه الأيام فخصصوا "الحاكم" بمن يحكم في القوانين الجزائية والمدنية، و"القاضي" بمن يقضي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لها علاقة بأمور الدفن كالزواج والطلاق والإرث.
وذكر علماء اللغة أن "الفِتاحة"1، الحكومة والقضاء، قال الأشعر الجعفي:
ألا من مبلغٍ عمرًا رسولًا ... فإنّي عن فتاحتكم غني2
وأن الفتح، الحكم بين الخصمين في لغة حمير. يقال: فتح الحاكم بينهم، إذا حكم3.
وإذا تجاوز الحاكم العدل وتباعد عن الحق، يقال: شط عليه في حكمه. و"الشطط" مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام4.
و"الجور" الظلم والتعدي على الغير، وإذا شط الحاكم على شخص، يكون قد جار عليه وظلمه، وما أنصفه في حكمه.