على هذا النحو وعلى هذا العرف، هو علامة تفضيل له على غيره. ويقوم الحجاب أو من إليه أمر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى أيمنه فخرًا شديدًا، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من أمارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ "يزعل" الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت إليهم. وقد يتركون مجلس الملك، ويقع ما يقع بين الملك وبين المنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم.

ومن آيات تكريم رئيس الوفد، أن الملك كان إذا وضع الشراب، بدأ بالشرب أولًا، فإذا انتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو أنه يأمر السقاة أو يشير إليهم إشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلًا للتقديم، ومعنى هذا أنه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما الملوك الذين تحكمت أعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و"النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق أن تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه إذا دعا الشاعر "عمرو بن هند" وأمه لزيارته، وكان ينوي الإساءة إليه، لأنه كان فخورًا متعززًا بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولأنها من بيت رئاسة، فلما صرخت "وا ذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله.

وكان من عادة ملوك الحيرة، أنهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلسًا: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقونهم الخمور، وقد تغني فيه القيان1، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لأعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015