الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الأهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أِشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحادًا مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو أن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد, فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة؛ ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها؛ لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون أنه لا يمتاز عنهم بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته أنه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وأن من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفًا ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضعت لحكم "ملوك كندة" ضعفًا في الأسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوَّن سادات القبائل إمارات عديدة حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفًا في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة والروم, كان يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.

ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة. فإذا ارتحلت عنه وحلت في أرض أخرى, أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه, وأما الأوطان الأخرى ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. ومن هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الإيمان بالقوم, أي: الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشمل كل الأرضين التي يستوطنها ذلك الجنس.

وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة. فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من أعنف أعداء القومية العربية, لا في الجاهلية فحسب, بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015