وإن عملًا يتم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن أن يرضي المؤلف أو يسعده؛ لأنه عمل يعتقد أنه مهما اتفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد؛ فلن يكون على الشكل الذي يتوخّاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصوّرها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرّعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه وإرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، ولولا اعتقاده أن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضررًا، وإن كتابًا يؤلَّف وينشر على ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء. أقول: لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتابًا وعددتني مؤلفًا من المؤلفين.
وأنا إذ أقول هذا القول وأثبته، لا أريد أن أكون مرائيًا لابسًا ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. وإنما أقول ذلك حقًا وصدقًا؛ فأنا رجل أعتقد أن الإنسان مهما حاول أن يتعلم، فإنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلًا، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ظننت أني انتهيت من موضوع، وفرحت بانتهائي منه، أدرك بعد قليل أن هناك علمًا كثيرًا فاتني، وموارد جمّة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان".
وقد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألّا أنصِّب نفسي حاكمًا تكون وظيفته إصدار أحاكم قاطعة، وإبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها؛ بل أكتفي بوصف الحادث وتحليله كما يبدو لي. وقد لا تُعجب طريقتي هذه كثيرًا من القراء، وعذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، ولا أدوّن لشراء العواطف؛ وإنما أكتب ما أعتقده وأراه بحسب علمي وتحقيقي، والرأي عندي أن التأريخ تحليل ووصف لما وقع ويقع، وعلى المؤرخ أن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عن كل ما ورد عنه، ومناقشة ذلك مناقشة تمحيص ونقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجدّه واجتهاده تدوينًا صادقًا على نحو ما ظهر له وما شعر به، متجنبًا إبداء الأحكام والآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة.
لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "والكتاب بحث، أردت جهد طاقتي أن يكون تفصيليًّا، وقد يعاب عليّ ذلك، وعذري في هذا