...
الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط
مملكة النبط، مملكة عربية لم يعرف الأخباريون من أمرها شيئًا. سداها ولحمتها النبط. وهم قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم، وعيروا بهم، وأبعدوا أنفسهم عنهم، وعابوا عليهم لهجتهم، حتى جعلوا لغتهم من لغات العجم، وقالوا إنهم نبط، وإن في لسان من استعرب منهم رطانة. وسبب ذلك، هو أنهم كانوا قد تثقفوا بثقافة بني إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرمية عليهم؛ ولأنهم فضلًا عن ذلك خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة وبالرعي وباحترافهم للحرف والصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم، ويعير من يقوم بها ويحترفها.
وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دولة بعد أن كانوا أعرابًا يعيشون عيشة ساذجة، تكمن في أسباب وأسس اقتصادية1 فقد تمكن هؤلاء النبط الأذكياء من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبلاد الشام بها، ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا أنفسهم بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد الشأم ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم أموالًا طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية بالنسبة على غيرهم ممن يسكنون البوادي، والمواقع المقفرة المنعزلة.